عصيد والصلاة: فتوى الفيلسوف الفقيه -2- ذ يونس الناصري

المغالطة الرابعة
ظهرت في قوله: “فالموظف لا يمارس مهنة حرة، بل عملا مؤسساتيا منظما بقوانين الوظيفة العمومية، أو قوانين القطاع الخاص، وهو ملزم بخدمة مواطنين يتقدمون إليه في مكتبه، وقد يكونون صفا طويلا يمتد طوال اليوم، وعليه تلبية طلباتهم ليس منةً منه أو أريحية، بل من منطلق الواجب المهني، الذي يتقاضى مقابله أجرا ماديا شهريا”.
يقال -والحالة هذه- إن من حق أي موظف في دولة دينها الرسمي الإسلامُ أن يطالب بأداء أركان إسلامه الذي يؤمن به؛ لذلك نجد المساجد ولله الحمد تقريبا في كل المرافق العمومية، بل الخاصة، وحتى إن لم يُبْنَ المسجد بناء تاما محكما، فإن المؤسسة تخصص للموظفين ولعموم المواطنين مكانا لأداء واجبهم الشرعي، وهذا ما يغيظ حفنة بني علمان ويدعوهم ليتحدثوا عن الصلاة.
ثم إن عصيدا يتكلم بلسان المواطنين كلهم، كأنهم قدموا له في صعيد واحد شكاوى وعوارض استنكارية من أداء الموظفين لصلاتهم وتركهم أعمالهم، وهذا لم ولن يحدث من مواطنين مسلمين يقدرون الصلاة حق قدرها.
وأيضا فالموظفون لا يتركون جميعا مكاتبهم وينصرفون إلى الصلاة جماعةً، ويدعون المواطنين في صفهم يتباكون ويتذمرون، وإنما حقيقة الحال أن الواحد منهم ينصرف إلى الصلاة ويترك المكان لزميله تأديةً لواجبهم الوطني، والموظف الذي يشتغل بمفرده في مصلحة ما داخل الإدارة، إن تأخر بضع دقائق، فإن المواطنين يتفهمون الأمر ولا ينكرون عليه صلاته، بل إن المواطنين ينصرفون هم أيضا إلى الصلاة، فيصطفون والموظفين جنبا إلى جنب في أريحية وأخوة، إلا أن عصيدا يحسب كل المغاربة علمانيين لا يقيمون للشريعة وزنا، فهيهات هيهات.
لا ينكر أن بعض المواطنين الذين لا يصلون، قد يستشعرون عظم ذنبهم لما تركوا الصلاة، فتأخذهم مع ذلك الحمية وينكرون على الموظف تأخره في الصلاة أو ذهابه إليها، غير أن هذه الفئة قليلة جدا، وغالب من لا يصلي يخجل من الحديث في موضوع الصلاة مع الموظف وغيره؛ لأنه يحس بخطئه الجسيم.

المغالطة الخامسة
وهي قد فضحت عصيدا وأعوانه، وأكدت نزوعهم الانحلالي، وتشبثهم الأعمى الأصم بالحرية المطلقة التي لا تراعي شرعا ولا أخلاقا ولا أعرافا، ظهر ذلك في قوله: “في هذه الظروف تغيرت علاقة الموظف بـ”الجماعة”، أي: جماعة المؤمنين، فهو لم يعد يرتبط بالآخرين برابطة العاطفة الدينية التي تشكل لحاما بين أعضاء “الأمة”، بل الرابط بينه وبينهم قانوني مؤسساتي دنيوي، أي: رابط تؤسسه مفاهيم المسؤولية والواجب، وليس العقيدة، ولهذا لا ينظر الموظف إلى ضمير المواطنين الذين يخدمهم ولا إلى آرائهم وميولهم ونزعاتهم، بل يتعامل معهم بناء على قوانين وضعية من حيث هم مواطنو دولة تضمهم جميعا وتساوي بينهم أمام القانون”.
وهو كسائر أعداء الشرائع يريد قطع الرابطة الإيمانية بين المسلمين فيما بينهم، وبين المسلم وغيره من المواطنين غير المسلمين، ليجعلها علاقة علمانية خالصة تفصل بين السماء وبين الأرض، بين الإيمان وبين الصدق في العمل، وهي خلاصة ما ينسبونه إلى عيسى عليه السلام (دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر).
وتناسى عن قصد أو جهل أن المؤمنين إخوة داخل المؤسسات وخارجها، في السوق وفي المسجد، في اجتماعهم وافتراقهم، وأن الأخوة الحقيقية المستقاة من الكتاب والسنة هي التي تضمن للموظف الصدق والإخلاص في العمل، وتضمن للمواطن التعاونَ مع الموظف لأداء واجبه، والصبر عليه إن هو أخطأ، وتجاهل عن قصد أن العقيدة هي اللحمة القوية التي تنشر الخير والمحبة بين المواطنين، والموظف منهم، وأن نقصها أو عدم العمل بمقتضياتها هو الذي ينبت الحقد والغش فيما بين المسلمين، وكذلك فالعقيدة الإسلامية الصحيحة توجب على الموظف أن يعدل بين المواطنين، وأن لا يقدم في الصف أخاه المسلمَ على اليهودي أو النصراني اللذين قبله، بل هم سواء من حيث العمل وأداء الواجب، أما من حيث المحبة القلبية الباطنية، فيقدم المسلم على غيره؛ لأن اليهود والنصارى يفعلون الشيء نفسه وأكثر مع المسلم.

المغالطة السادسة
وإذا انتقلنا إليها وجدنا عصيدا يعمم في عباراته فيقول: “وحيث أصبح المواطنون يسجلون بشكل متزايد فراغ المكاتب من الموظفين بحجة الصلاة”، ولا يخفى ما في كلمتي “المواطنون يسجلون” و”فراغ المكاتب” من تهويل وتلبيس على أتباعه، كما لو أننا لسنا مواطنين نرى ما يجري في مؤسسات الدولة، ولو استفتى عصيد عموم الناس لخاب أمله ورجع بخفي حنين وارتدع عن سوء صنيعه.
وتابع كلامه فقال: “وبعضهم -أي: الموظفون- يفضل الخروج من مكان العمل لأداء الصلاة في المسجد طبقا لما تنص عليه الآية القرآنية، وقد يكون المسجد على بعد كيلومترات عديدة، مما يؤدي إلى ضياع مصالح الناس وعرقلة برامج عملهم”.
ونشير هنا إلى أنه قد يحصل نادرا ما ذكر آنفا من جعل بعض الموظفين الصلاة ذريعة للتخفف من أعباء العمل، بيد أن الغريب هو تأكيده على سفر الموظفين كيلومتراتٍ لأداء صلاتهم!!! فعلى من يكذب هذا الكائن؟؟؟ وقد قيل قديما: حبك الشيء يعمي ويصم، ونقول له الآن: بغضك الشيء يعمي ويصم، فنخشى أن يكون بغضك وبعدك عن الصلاة هما الدافع لكتابة هذا المقال!!!
أحس الكاتب بتفاهة ذكره للكيلومترات التي يقطعها المتسللون لأداء الصلاة، فذكر أن الإدارات تدراكت الأمر وخصصت أماكن للصلاة داخل مقرات العمل، لكن الموظفين الغشاشين، أصحابَ العقلية التحايلية -حسب عصيد- ممن أسماهم “أنصاف الأشباح”، أبدعوا طرقا جديدة في التملص من أداء واجبهم، وذلك لأن “الشخص الذي يصلي بالناس يبالغ في اختيار الآيات الطويلة، ويمعن في تمديد الركوع وتطويل السجود، كما لو كان الأمر يتعلق بصلاة العشاء أو التراويح..”.
وقد أعجبني رد أحد الكتاب على عصيد بخصوص ما نقلناه عنه في آخر ما ذُكر، حين قال: “ولا أدري هل رأي الكاتب مبني على استطلاع رأي أو بحث ميداني داخل أقسام الإدارة، أم أنه اعتمد على أخبار استقاها من (الذين إما أنهم لا يجدون الوقت للصلاة خلال برامجهم اليومية، وإما أنهم يختلفون عن الموظف في الدين والعقيدة، وليسوا ملزمين بأن يكونوا مشاركين له في الصلاة خلال أدائها، و إما أنهم لا يصلون أصلا ولا تحضر العبادة في حياتهم ألبتة) حسب ما جاء في المقالة؟؟؟” .
وقال في المصلين بعد ذلك: “إنه تواطؤ جماعي تساهم فيه ذهنية مضادة للأسلوب المدني”، وصاحب الفكر المتعصد يصف المسلمين دائما -انطلاقا من علمانيته المنحلة التي تنظر إلى الشريعة وآدابها على أنها قشور زائدة لفظها المجتمع الحديث، وتنظر إلى الملتزمين بها على أنهم أناس همج يناقضون المدنية والتقدم- يصف المسلمين بأن لهم عقلية متخلفة شاذة، لا ترقى إلى المدنية الحقيقة التي يرجوها هو ومن يتبعه.
فإذا تركت الصلاة فأنت مدني متحضر! وإن التزمت بها في حياتك فقد حكمت على نفسك بالرجعية والتخلف! فسبحان مقلب الأحوال والقلوب.
وختم العلماني مقاله بما يخزيه وإخوانه اللائكيين من نقاء فطرة المسلمين وتقديرهم لأوامر خالقهم، وهو ما يجعلهم يسفون التراب النتن حنقا وغضباً، ولا أشك في أن بواطن العلمانيين تحترق كمدا على ازدياد مظاهر الالتزام بشرع الله، أو على الأقل احترامه وعدم التطاول عليه.
فانظر أيها القارئ الكريم إلى استغراب عصيد الآتي: “والأغرب من هذا السلوك ردّ فعل المواطنين الغاضبين الذين ما أن يواجَهوا بحُجّة الصلاة من طرف الموظفين الغشاشين حتى يلوذوا بالصمت ويُطأطئوا رؤوسهم؛ كما لو أن حجّة الموظف مقبولة لا تناقش، بينما من حقّ المواطنين اللجوء إلى الإدارة لوضع شكايات في الموضوع وإعادة الأمور إلى نصابها”.
إن المسلم لا يطأطئ رأسه جبنا أو خوفا، وإنما هو يقدر الصلاة قدرها، ولا يتطاول كالعلمانيين على شرع الله، وهل هو أخرق أهبل حتى يخسر دنياه وآخرته؟؟؟
ولكن العصيديين لا يفقهون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *