نحن والحداثيون والتراث ذ.الحسن العسال

يدعي الحداثيون ممن “يتبنى” منهم التراث، بأنهم ينتقدونه، لإعادة بنائه، ومن أجل جعله معاصرا لنا، فما معنى هذا الكلام؟ وما القصد من ورائه؟ وهل هناك فرق بين هؤلاء وبين من يقول بالقطيعة التامة مع التراث؟

مفهوم التراث
التراث: “هو ما توارثته الأمة من مختلف الوجوه الحضارية والنشاط الثقافي عبر تاريخها الطويل. فالدين واللغة والأدب والعلم والفن، مظاهر متنوعة لجوانب ذلك التراث القومي أو الإنساني”(1).
أي أن مفهوم التراث اليوم، هو ذو مضمون ثقافي وفكري، عكس ما كان في الماضي، حيث كانت دلالته تقتصر على القيمة المادية ممثلة في المال، وعلى القيمة الاجتماعية الممثلة في الحَسَب، والتي كانت أقل تداولا في الأدبيات الإسلامية.
يقول الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في مقال له بعنوان: “مفهوم التراث والمواقف المتباينة تجاهه”: “إن التراث قد عُرف بأنه: امتداد السلف في الخلف، واستمرار مآثر الآباء والأجداد في الأبناء والأحفاد، الأمر الذي يؤكد مقدرة الماضي على أن ينداح في دوائر الحاضر والمستقبل، بل إن بعض التعريفات مثل تعريف المستشرق الفرنسي جاك بيرك نصّت على أن التراث هو: (الماضي يحاور الحاضر عن المستقبل)…
فالتراث إذاً هو السياسة والحكم والعقيدة والأدب والفن والظواهر الطبيعية والاجتماعية والنفسية. وهو كذلك عبارة عن الخصائص البيئية والخلفيات التاريخية، وعليه فهو يشكل هويتنا الحضارية، ونظرتنا إلى أنفسنا والآخرين، ورؤيتنا للعالم من حولنا”.
وأول ظهور لمفهوم التراث في الفكر العربي، حسب الشيخ زايد، كان مع عمرو بن كلثوم، الذي يقول في معلقته:
ورثنا مجد علقمة بن سيف أباح لنا حصون المجد دينا
ورثت مهلهلاً والخير منه زهيراً، نعم ذخر الذاخرينا
وعتاباً وكلثوماً جمعياً بهم نلنا تراث الأكرمينا
“وإذا كان مفهوم التراث في الفكر العربي المعاصر، يبدو واحدا من أكثر المفاهيم تجريدا وإثارة للبس والإبهام، فنحن لا نستخدم التراث استخداما واحدا، وبالمعنى نفسه دوما، وإنما نستخدمه على أنحاء متعددة، متفاوتة في الدقة والوضوح، فهو تارة الماضي بكل بساطة، وتارة العقيدة الدينية نفسها، وتارة الإسلام برمته وعقيدته وحضارته، وتارة التاريخ بكل أبعاده ووجوهه”(2).
لكن كيف ينظر الحداثيون إلى التراث ويتعاملون معه؟
هناك من يعتبر الحداثة نقيضا للتراث، وثمة من يجعل من الأفكار الشاذة الموجودة في التراث حداثة!!
يقول أركون: “وإننا لسنا بالضرورة أكثر حداثة من آبائنا لأننا جئنا بعدهم من حيث الزمن”، ويضيف: “ينبغي أن نصغي للتراث وللموتى، لأن الموتى يمكن أن يقولوا أشياء جيدة ونافعة”(3).
فمن هم هؤلاء الموتى الذين ينبغي أن نصغي إليهم؟!
إنهم أمثال المعري وأبي نواس الذين هم حداثيو التراث، أما أمثال ابن تيمية وأحمد بن حنبل فهم تراثيو التراث!!
ولأن الكلام الآن عن الحداثة، فلا يهم أن تُحْتَرَمَ الديمقراطية، يقول أركون: “إذن هكذا ترون أمام أعينكم مثالا حيًّا صارخا على الكيفية التي يحارب بها المجتمع الأشياء الرائعة والثمينة جدا في التراث”(4). فإرادة المجتمع لا قيمة لها -عند أركون- أمام الحداثة.
أما هبل الحداثة أدونيس فلا يتورع في الدعوة إلى الحداثة في الفكر، والعلمانية في السياسة، فيقول: “الإسلامُ لا يصلح لشيء ولا ينفع الناس قِطْمِيرا”.
“الإسلام ظلمٌ وعدوان ووحشية وتخلف واستبداد دموي”.
لا يهم أدونيس من التراث إلا الزندقة والإلحاد والتمرد على كل ما يمت للإسلام بصلة، معتبرا إياها إبداعا، لأن ثورته لا تكون إلا على الدين ومسلماته، وعلى القيم والعائلة والمجتمع.
وحتى نربط النظري بالواقعي، فهو يرفض -مثلا-الانضمام إلى مظاهرة تنطلق من المسجد(5)، بل لا يُجَوِّز “لمعارضة حقيقية تريد بناء الجديد أن تخرج من المسجد، وإنما عليها الانطلاق من الساحات العامة”.
والمجتمع حسب زعمه هو المواطن، ودين هذا الأخير هو القانون.
أما عندما سئل عن بشار ونظامه، انخفضت حدة ثورته، واعتبر ما يحدث مجرد اختبار للنظام القائم، وللدولة ورؤيتها. بل ذهب إلى حد اعتبار أن بشارا يريد الإصلاح! مقابل تأكيده على وجوب القطيعة فيما يخص الثورة السورية مع السياق التقليدي القديم، الذي ساد منذ خمسة عشر قرنا(6)، إلا أنه لم يستطع الرهان على هذا الأمل.
أما الجابري الذي يبدو أقل حدة على مستوى العبارة والخطاب، فإنه يلتقي مع الحداثيين في نهاية الطريق، إذ على الرغم من أنه رفض الدعوة التي تعلن رفضها التام لكل ما هو حديث، ممثلة في التيار السلفي حسب زعمه، كما رفض تلك التي تدعو لرفض كل ما هو تراث، بوصفه مصدر تخلف، فإن موقفه ونظرته للتراث لا تختلف كثيرا عن موقف العروي الذي يعلن القطيعة الكبرى مع التراث، ويتخذ منه موقفا سلبيا منطلقا ونهاية.
حيث يقول العروي في “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” ص:16: “نودع نهائيا المطلقات جميعا، نكف عن الاعتقاد أن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا”.
ويقول في نفس الصفحة: “إذا كان لتجارب الأمم مغزى، فإن أمرنا لن يصلح(7) إلا بصلاح مفكرينا، باختيارهم -اختيارا لا رجعة فيه- المستقبل عوضا عن الماضي”.
وهذا لا يختلف في العمق عن قول الجابري في: “القارئ العربي مؤطر بتراثه، بمعنى أن التراث يحتويه احتواء يفقده استقلاله وحريته” (نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، ص:21).
ويقول: “إن تحرير الذات من هيمنة النص التراثي يتطلب إخضاع النص التراثي لعملية تشريحية دقيقة وعميقة، تحوله بالفعل إلى موضوع للذات، إلى مادة قرائية”. (نفسه ص:23).
ويقول: “إن رقابة المجتمع المعنوية والمادية تمنع بعض العطاءات الذاتية التي تحمل تطلعات واستشرافات حرة متمردة” (نفسه ص:25). وهذا عين ما قاله أركون قبلا.
ويقول في التراث ﻭﻤﺸﻜل المنهج: “ﻨﻘﺩ التراث ﻫﻭ ﺘأﺴﻴﺱ للحداثة، والحداثة ﻫﻲ ﺭﺅية ﺘﺘﻴﺢ ﺘﺄﺴﻴﺱ التراث ﻤﻤﺎ ﻴﺠﻌﻠﻪ ﻤﻌﺎﺼﺭﺍ لنفسه، ﻤﻨﺴﺠﻤﺎ ﻓﻲ ﺒﻨﻴﺔ عالمه الداخلي ﻭﻤﻌﺎﺼﺭﺍ لمنتجيه ﺍﻷﺼﻠﻴﻴﻥ” (مجلة المستقبل،العدد:83).
أما حسن حنفي فيقول: “نشأ التراث من مركز واحد، وهو القرآن والسنة، ولا يعني هذان المصدران أي تقديس لهما، بل هو مجرد وصف لواقع”(8).
وفي نفس السياق يعتبر محمد أركون القرآن الكريم مجرد مجازات وخيالات، لا تصلح لأن تكون قانونا بشريا، كما هو الحال مع الأناجيل والتوراة”. (تاريخية الفكر الإسلامي، ص:299).
من هذا كله يتضح أن المستهدف من التراث هو نقد الإسلام ثم نقضه، لتتأسس على أنقاضه الحداثة كدين جديد!!

نحن والتراث:
يقول الجابري: “القراءة السلفية للتراث، قراءة لا تاريخية، وبالتالي فهي لا يمكن أن تنتج سوى نوعا واحدا من الفهم للتراث، هو الفهم التراثي للتراث. التراث يحتويها وهي لا تستطيع أن تحتويه، لأنها: التراث يكرر نفسه” (نحن والتراث ص:13).
يقول الشيخ الألباني رحمه الله في التصفية والتربية: “ويجب على أهل العلم تربية النشء المسلم الجديد على ضوء ما ثبت في الكتاب والسنة، فلا يجوز أن ندع الناس على ما توارثوه من مفاهيم وأخطاء؛ بعضها باطل باتفاق الأئمة، وبعضها مختلف فيه، وله وجه من النظر والاجتهاد والرأي، وبعض هذا الاجتهاد والرأي مخالف للسنةّ”.
وبمعنى آخر التراث عندنا لا يُقَوَّمُ بخلفيات حداثية، وإنما يقوم كما قال الإمام مالك: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”، يقوم بالشعار الذي أجمع عليه الأئمة الأربعة: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
فليقل “الحداثيون” ما شاءوا، مادامت خلفيتهم حداثية غربية. أما نحن فخلفيتنا إسلامية تمتح من الوحيين اللذين لا انفكاك عنهما، وإلا سنغادر مرجعيتنا إلى مرجعية الآخر، الذي لا يمل من تمجيد تراثه، بل وجعله أصلا لتراث الإنسانية، كما يجعلون حاضرها ومستقبلها، هو حاضرهم ومستقبلهم هم، في إقصاء تام لغيرهم، ويتبعهم في ذلك الحداثيون، بوعي أو بغير وعي، بتبعية أو بانتهازية.
نحن أيضا عندنا تبعية وبكل وعي، لكن ليس للآخر بل للذات(9) المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــ

1- حول قضية التراث ص:10؛ بقلم الدكتور محسن عبد الحميد.
2- إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر بين حسن حنفي وعابد الجابري؛ بقلم رحاب الدين الهواري.
3- وعندما نستشهد بسلفنا الصالح يسخرون، فاللهم اجعلنا مثل نوح عليه السلام مع قومه.
4- هذا وما قبله في مجلة الوحدة العدد52.
5- وتساءل بكل غباء: “لماذا لا نخرج من الكنيسة أيضا؟”.
6- إياك أعني واسمعي يا جارة.
7- وما أظنه إلا اقتبس العبارة من إمامنا مالك رحمه الله الذي قال: “لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”،مع الفرق الشاسع بين المضمونين.
8- نفى تهمة تقديس الوحيين عن نفسه!
9- هنا أقتبس مفهوم ثنائية الأنا أو الذات والآخر، وأرجو أن تفهم ضمن هذا السياق.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *