غض البصر في زمن المغريات

كل منا مسافر نحو الله، ولا يدري متى يكون لقاءه بربه، والسعيد من اتخذ التقوى زادا له في سفره، {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}.
في زمان مضى كان الإنسان إذا أراد أن ينظر إلى ما يفتتن به قلبه يذهب فيطلبه في مظانه ومواقعه، فتكثر العراقيل أو تقل نحو مطلوبه، فإذا ما وصله، وصله بعد عناء، فيذهب كثير من لذة النظر بين تعب الوصول، والخوف ممن يرقبه. ثم قد صرنا إلى ما نحن فيه؛ إذ تلاحق الصور الإنسان في مسكنه وعمله، بل حتى حين يخرج إلى المتنزهات. بل وصل الأمر أن تأتيه وهو في بيت من بيوت الله! ولذا فكلما كان التحرز من المحرم أكثر صعوبة، كان الأجر عليه أكبر، فمن يغض بصره في زماننا أعظم أجرا ممن يغض بصره في زمن غابر؛ لكثرة الدواعي، وقلة الصوراف.
قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} فلم يأمرهم -سبحانه- بإطباق أعينهم على الدوام؛ بل أمرهم بغض بصرهم حين يكون أمامهم مما حرم الله.
وكما أن الرجل مأمور بغض البصر، فالنساء مأمورات به كذلك، {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن}، لكنه سبحانه قدم النداء للمؤمنين؛ لأنهم أكثر وقوعا في إطلاق البصر فيما حرم الله.
ومن الاسباب المعينة على غض البصر:
أولها: مراقبة الله تعالى، والعلم بأنه مطلع عليك فتستحي منه سبحانه أن يراك في معصية، فتتذكر اسم الله “البصير” و”العليم”، لتترك المعصية حياء من الله.
وثانيها: الاستكثار من فعل الطاعات ليزداد إيمانك، ومن يزدد إيمانه، فيتذوق حلاوة الطاعة، يستنكف أن يعود إلى مرارة المعصية.
ثالثها: إقامة الصلاة كما أرادها الله تعالى، {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
رابعها: المحافظة على النوافل بعد إقامة الفرائض، فمن أدى الفرائض، ثم أتى بالنوافل، أحبه الله، وإذا أحبه الله، دخل في حديث {كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به}، فلا يرى إلا ما أباحه ربه.
خامسها: استخدام العلاج الذي ذكره الله في أول الآية {يغضوا من أبصارهم}، فيجاهد المسلم نفسه على غض بصره ابتداء، وإن وقع بصره على محرم صرفه مباشرة. قال ابن الجوزي يرحمه الله: “ليكن لك في هذا الغض عن المشتهى نية تحتسب بها الأجر وتكتسب بها الفضل وتدخل بها من جملة من نهى النفس عن الهوى”.
ليس الشجــاع الذي يحمي مطيتــه *** يوم النــــزال ونار الحــــرب تشتعل
لكن فتى غض طرفـا أو ثنى بصرا *** عن الحـــرام فذاك الفــارس البطل
وسادسها: الصبر على هذه الطاعة، فمن صبر على غض بصره، أعانه الله على نفسه، ومن تمادى في النظر، لم يدرك كل ما يراه، ولم يصبر عن بعضه، فيقع بين حسرتين.
وسابعها: تذكر جزاء غاض الطرف عند ربه عز وجل {فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان}.
وثامنها: وهو العلاج الوقائي، اجتناب الذهاب إلى مواطن الفتن، والأماكن التي تكثر فيها الشهوات. قال ابن الجوزي رحمه الله: “واحذر رحمك الله أن تتعرض لسبب البلاء، فبعيد أن يسلم مقارب الفتنة منها، وكما أن الحذر مقرون بالنجاة، فالتعرض للفتنة مقرون بالعطب، وندر من يسلم من الفتنة مع مقاربتها، على أنه لا يسلم من تفكر وتصور وهمَّ”.
تاسعها: صرف البصر في الأمور الشرعية التي أمر الله بصرفها فيه أو ندب إليه مثل النظر إلى الزوجة والنظر إلى آيات الله عز وجل في السماوات والأرض ونحو ذلك فهذا هو المصرف الشرعي للنظر فإذا اشتغل المسلم بمثل هذا كان له شغلا عن الحرام ومصرفا عن النظر في الآثام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *