أهمية تولي منصب القضاء وخطورته الطالب الباحث: المصطفى خرشيش متخصص في ديداكتيك المواد التعليمية ومناهجها وطرق تدريسها

أولا: أهمية تولي منصب القضاء:

القضاء معناه: «فصل الخصومات وإنهاء المنازعات بإلزام الخصم بالحكم الشرعي»[1].

وبهذا الفصل تنفيذا للأحكام الشرعية يعتبر منصب القضاء من المهمات الصعبة التي يمارسها القضاة يوميا في مجتمعنا الإسلامي، وعلى قدر أهميته تكون خطورة ممارسته من طرف قضاة غير منتبهين إلى سياق الدعوة وحيثياتها وملابساتها وجميع ما يحيط بها شرعا وقانونا.

ذلك أن هذه المهمة الجسيمة تحتاج في الفصل بين المتخاصمين في النزاعات المجتمعية إلى أن يكون المشرف عليها ذا دراية بأدبيات القضاء وأولوياته، وملابسات الدعوة وطرق إثباتها، وأن يكون نبيها وذكيا في التعامل مع القضية المتخاصم بشأنها؛ من أجل الوصول إلى طرق إحقاق الحق وتثبيته، وإبطال الباطل وإزالته.

ونحن في مجتمعنا اليوم كثرت القضايا والدعاوى المتنازع فيها في مجالات مختلفة منها: الأسري والاقتصادي والاجتماعي والعقاري… مما يصير القضاء معها من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها لحلها وفتح مشكلاتها المستعصية.

والشريعة الإسلامية الغراء إنما جاءت لتحقيق مقصد إقامة العدل بين الناس وإزاحة الظلم عنهم في مثل هذه المرافعات اليومية، حيث يقول الحق جل جلاله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد،25].

ويقول عز من قائل: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء،58].

ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء:135/4].

فالقضاء في كل هذا يعتبر أهم ركيزة مجتمعية تجعل الدولة تحقق العدل بين الناس فيما يتنازعون فيه؛ لأن كلا من المدعي والمدعى عليه يريد أن يملك ذلك الشيء المتنازع بسببه، أو يحوزه عنده أبدا، ويظن كل واحد منهما أنه له ومن حقه؛ حقيقة أو ادعاء، وهذا يفضي بالمحكمة إلى البحث في طرق إثبات الحق بالبينات بجميع أشكالها وألوانها.

ذلك أنه إذ لم يكن القضاء هو الملجأ الوحيد لفصل هذه الخصومات والنزاعات؛ لكثر الفساد بين المسلمين ولعمت البلايا والفتن.

طبعا هذا يحضر في ظل غياب الروادع الدينية التي تجعل الإنسان يتورع من أخذ حق الغير بدون حق، لكن الشيطان حين يدخل في القضية يجعل الأعصاب تتوتر والاضطرابات تزداد وتكون المعركة قد حمي وطيسها ويزداد حرارة وغليانا، وأحيانا يكون الصلح بين الطرفين متعذرا.

وهذا التصور يجعل كلا من المتنازعين على أخذ الحق مجهولا في نظر القاضي، حيث بدأ في الاستمرار مجهولا بالنسبة له، حتى بعد الحكم والفصل في المسألة، فيخطأ في الحكم نتيجة بينات مكذوب في شأنها كشهادة الزور، أو براعة المحامي في الدفاع عن المعتدي، فيحكم القاضي على هذا المنوال بغير الحكم المطلوب شرعا وقانونا.

هذا اللون من الخفاء في القضاء يجعله من أهم المناصب ذات الحساسية المرتفعة في  الفصل بين الخصومات وفض النزاعات، وما يجسد هذا الخطر قول النبي صلى الله عليه وسلم «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»[2]

إذ هذا المقام يقضي فيه القاضي انطلاقا مما يتوفر لديه من حجج وبراهين يراها مناسبة في الباب لإصدار الأحكام في الفصل بين المتخاصمين مدعى ومدعى عليه وهو على حسب نيته يجازيه الله في ذلك وحسبه أنه اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، أما إذا كانت نيته سيئة فإن مقتضى هذا المنصب يتحول إلى مسرحية لا تنتمي إلى ما يريده الله أبدا.

وتحقيق هذا المبدأ يتطلب صدق النيات وصفاء العزائم من أجل إقامة العدالة الاجتماعية بين الناس والحكم بينهم بما أنزل الله، ويدخل المتسم به في صنف المقسطين ويبتعد عن صنف القاسطين، وبذلك يكون قد ضمن لنفسه الجزاء الأوفى وهو دخول الجنة.

ثانيا: خطورة مسؤولية تولي منصب القضاء:

أما حين يختل نظام تحقيق العدل بين الناس بنية مبيتة خارجة عن القانون السماوي، وعزيمة سبقها الإصرار وتخللها في ذلك فإن القضاء يتحول من مهمة شريفة إلى منصب جريمة، والحق يقول: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن،15].

والقاسطون هم الظالمون، قال ابن عطية:«والقاسط: الظالم، قاله مجاهد وقتادة والناس»[3]

والحق أقول أنه إذا لم يعلق الناس آمالهم على القضاء لاسترداد حقهم المنتزع؛ لما توجهوا إلى القضاء أبدا، إذ ترافعهم إليه إنما جاء سعيا وراء أمل تحقيق العدل في أخذ ما يراد انتزاعه منهم غصبا عنهم.

أما الخطورة التي تؤثر بشكل مباشر على سير الدعوة تتجلى في عوامل نفسية يصعب معها أداء مهمة القضاء بشكل جيد؛

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ”[4].

فمثل هذه الحالات النفسية كالجوع والعطش والغضب… يؤثر على سير الدعوة بشكل عام نتيجة تأثيره على نفسية القاضي، فإذا شعر القاضي بأي من هذه المشوشات وجب عليه أن يوقف الدعوة إلى أجل يكون معه متخلصا فيه من هذه المحبطات النفسية، وتكون نفسه قد استحوذ عليها الاعتدال والاطمئنان، دون الفرح الزائد على الحد المعهود، فالتوسط مطلوب والزيادة عليه أو  النقص منه مطلب مخل بسير الدعوة رفعا ونظرا وحكما.

كل هذه العوامل وغيرها تجعل منصب القضاء في خطر حين يصبح الأمر مرتبطا بالمساس بمبدأ العدل ومحاولة الاعتداء عليه، والحالات النفسية هذه إنما تجر الإنسان وراءها جرا وخصوصا الغضب منها.

هذا بالإضافة إلى الحكم بالجهل والجور فهما مؤذيان ومؤديان بصاحبها إلى مصير لا تحمد عقباه، عن  بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ جَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ»[5]

إذ «ليس للقاضي إصدار الحكم في قضية ما بناء على قناعته الشخصية، وإنما لابد من التقيد في إثبات الحق بوسائل إثبات معينة كالشهادة والإقرار واليمين والقرينة»[6].

فالحكم لا يبنى على القناعات، وإنما يبنى على الأدلة التي تقوي وتعزز ما ذهب إليه هذا الخصم أو ذاك، وتتحكم في سير الدعوة نحو مسارها الصحيح دون انحراف أو اعوجاج. والقضية بطبيعة الحال تحف بها مجموعة من البينات والقرائن التي ترشد القاضي في حكمه إلى معرفة وجه الصواب.

ولقد نص الفقه الإسلامي على كثير منها وبين مواطن إعمالها وإهمالها يرجع إليها القضاة في الحكم بين الناس حتى يكونوا على بينة من الأمر في تنزيل شريعة الله.

وفي هذا الإطار نسلط الضوء على نصيحة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين لأبي موسى الأشعري عندما ولاه قضاء الكوفة، حيث جاء فيها: «سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو

أمَّا بعد،

فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متّبعة.

فافهم إذا أُدلي إليك.

فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له.

آسِ بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.

البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.

والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراماً، أو حرَّم حلالاً.

ومن ادعى حقاً غائباً أو بيِّنةً، فاضرب له أمداً ينتهي إليه، فإن بيَّنه أعطيته بحق، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ للعذر، وأجلى للعماء.

ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.

والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجرَّباً عليه شهادة زور، أو مجلوداً في حد، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة.

فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود، إلا بالبيِّنات والأيمان.

ثم الفهمَ الفهمَ، فيما أدلي إليك، مما ورد عليك، مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق.

وإياك والغضب، والقلق، والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر عند الخصومة أو الخصوم.

فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذِّكْر.

فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن بما ليس في نفسه شانه الله، فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصاً.

والسلام عليكم ورحمة الله[7].

وهذه النصيحة ينبغي أن تكون مكتوبة عند أي قاضي من قضاة المسلمين اليوم يعودون إليها لقراءتها قبل الإقدام على الحكم في أي نازلة، حتى يعلموا ما هم بصدد الإقدام على فعله.

فالعدل بين الناس إنما يتحقق حين يكون القاضي ورعا تقيا… يسلك في دعواه مسلك الحق والبيان؛ لا مسلك الغش والخذلان.

إذ الدعوة تحتاج منه إلى التجرد من شخصيته الأصلية التي يعرف بها هذا وذاك حتى لا يدخله بذلك وسوسة الشيطان التي تزين له الميل إلى أصحاب الجاه وترك الفقراء، ذلك أن هذا يقتضي بالضرورة الخروج عن مسلك الحق والتمادي في الباطل، ولا يقبل أبدا هذا اللون من السلوك المستقبح في حق من ينوبون عن الله في إقامة العدل في أرضه.

والواجب إزاء ذلك كله أن يتحرى الأخذ بالحق حيث كان، ويسعى إلى تحقيق العدل حيث بان، ويبتعد عن المشوشات الداخلية منها والخارجية قدر الإمكان، حتى لا يطمع شريف في حيفه، ولا ييأس ضعيف من عدله.

كل هذا يتحقق بالحكم بما أنزل الله في وحيه، مع مراقبة الله سبحانه في تنزيل أحكامه، ولو كان الحكم في الأقربين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة، 8].

هذا والله تعالى أعلم بالصواب.
————————————-
[1] الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي، ج:8، ص:5981، دار الفكر – سوريَّة – دمشق
[2] صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب:الحكم بالظاهر، واللحن بالحجة، حديث رقم:1713، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج:3، ص:1337
[3] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، دارالكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى – 1422 هـ، ج:5،ص: 382
[4]  مسند أحمد من حديث أبي بكرة نافع بن الحارث بن كلدة، حديث رقم: 20389، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001 م
[5] سنن ابن ماجه، كتاب: الأحكام، باب: الحاكم يجتهد فيصيب الحق، حديث رقم:2315، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، ج:2، ص:776.
[6] الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي ج:8، ص:5924.
[7] الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي، ج :8، ص: 5928- 5929

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *