من مكرور الحديث تناول الأوضاع التي تمر بها الدول العربية من أزمات متلاحقة آخذة بتلابيب العديد منها, في حين تنتظر الأخرى في استسلام عجيب ومريب في آن واحد أن توضع على منضدة التشريح ليعمل فيها العاملون أدواتهم وينفذون فيها مخططاتهم.
وجولة سريعة على خريطة العالم العربي لن تكون مفاجأة إذا ما وجدنا معاول التقسيم والتفتيت قد طالت عدة بلدان عربية, فيما الأخرى قد جرى تجهيزها للعملية التي لا نظن أنها ستستغرق طويلاً من الزمن نظرًا للقابلية الانهيارية التي باتت تغلف العديد من الأنظمة, وضعف المناعة والمقاومة السياسية للبعض الآخر, ناهيك عن استقواء الطابور الخامس وحصانته في غالب تلك الدول.
المؤامرات الحالمة
بعيدًا عن الفلسفة الجدلية التي تسود دائمًا الحديث عن مؤامرات تحيط بالعالمين العربي والإسلامي, فإن الواقع هو خير شاهد على ما يجري وما سيجري في الغد من حرب تستهدف الهوية العربية والإسلامية وتريد لهما موتًا هادئًا لا صحوة بعده.
فالصومال قد استسلم لقدره السياسي منذ عام 1991 عقب انهيار نظام “سياد بري”, وأتت الحرب الضروس على خضرائه ويابسه وما تركته حتى الآن رغم أنه أشبه ما يكون بالحطام المتناثر, إذ تعلو فيه روح العصبية والقبلية متغلبة على روح التفاهم والحوار التي تم استبدالها بالقنابل والرصاص.
وتركت الصومال العربية فريسة الأطماع, وبدلاً من أن يكون للعرب اليد الطولى في البحث عن مخرج لهذه الدولة الشقيقة إذا بها تترك لتكون مرتعًا ومكانًا خصبًا لمشكلات الجوار التي زادت الأزمة تعقيدًا وتأزمًا.
والعراق يرزح تحت وطأة الاحتلال الأمريكي ـ الأوروبي الذي أطلق مارد الفتنة والحرب الطائفية من عقالها, ووقف العراق على شفا التقسيم بين شمال كردي ووسط سني وجنوب شيعي.
ويتكرر المشهد مجددًا, فيغيب عنه العرب ويمسك الملف من رأسه حتى قدميه الاحتلال من ناحية والدولة الشيعية الفارسية من ناحية أخرى, كل يبحث عن أطماعه ومآربه, فيما العرب في مقعد المشاهدة لا يبرحونه.
حتى المقاومة التي يعقد لها الأمل في وقف مخططات التقسيم والطائفية لا تجد حتى دعمًا معنويًا وسياسيًا عربيًا في مواجهة الركام الإعلامي الغربي الذي يعمد إلى تشوهيها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً, والدعم الفارسي الإيراني للمسلحين الشيعة الذين يمارسون “تطهيرًا عرقيًا” منظمًا ضد السنة العرب.
والسودان قد انسلخ جنوبه, أو هو في طريقه إلى ذلك, وفتنة الغرب في دارفور تجد من يزكيها ويشعلها, وعما قريب ستوضع تحت الانتداب الدولي تمهيدًا لسلخها هي الأخرى عن السودان في تكرار حرفي للمشهد العراقي, ويقف شرق السودان ينتظر مِعْول التقسيم هو الآخر, لنقف أمام أشلاء دولة عربية يخرج من رحمها ثلاث دول تدين بالولاء والطاعة لمحررها الغربي المسيحي.
وفي هذا الخضم المتلاحق لا يتغير المشهد العربي الذي اكتفى بمؤتمرات تعددت أشكالها، وتبقى مضامينها واحدة، محجوز لها مسبقًا خانة العجز والفشل عن مخرج لمشاكلها المتفاقمة يوما بعد يوم.
ولبنان عقب الجريمة الموتورة التي أدت إلى مقتل رئيس الوزراء رفيق الحريري في فبراير عام 2005 خطت بقوة مرة أخرى إلى نزاعات طائفية واحتقان سياسي أعاد إلى الأذهان ما كان عليه الوضع في ذلك البلد من قبل.
وكان عليها في ظل الصمت العربي والتغافل عن مستقبلها المحفوف بالمخاطر أن تسلّم بالتدخل الأمريكي الفرنسي الذي فصم عرى الترابط مع سوريا كخطوة أولى لمحاصرتها هي الأخرى, ثم نراه مصرًا بعد ذلك على محققين دوليين ومحكمة دولية في طعن واضح لاستقلال هذا البلد وسيادته وتمهيدًا لإشعال نار الفتنة مجددًا.
ومن اللافت أن لبنان هو البلد الوحيد الذي مثل بوفدين في القمة؛ إذ حضر بالإضافة إلى الرئيس إميل لحود رئيس الحكومة فؤاد السنيورة, ألقى كل منهما كلمة خلال الجلسة المغلقة لعرض وجهة نظره في الأوضاع داخل لبنان!!
وفلسطين نكبة العرب والمسلمين تركت في مهب الأهواء والرغبات الصهيونية التي تخطط وتنفذ بمعزل عن أي طرف عربي داخلي أو خارجي.
فرسمت جدارها الفاصل وتخلت عن إدارة غزة, وأعلن خليفة شارون – نهجًا وممارسة – إيهود أولمرت أنه سيمضي في تخطيط حدود “إسرائيل” الدائمة بمعزل عن أي طرف آخر وسيشاور فقط الولايات المتحدة في ذلك.
وفقد العرب أية أوراق يلعبون بها لوقف تلك المخططات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية وجعلها من ملفات التاريخ, فيما يتم محاصرة المقاومة وتصفية قادتها واحدًا تلو الآخر لشل قدرتها التفكيرية ووقف نموها البنيوي والتنظيمي.
ولن يقف المشهد عند ذلك الحد, فالمسلسل – فيما يبدو – طويل, تنتظر فيه الدولة تلو الأخرى, في سلسلته النهائية ـ حسب المؤامرات الحالمةـ لا توجد جغرافية تسمى بالعالم العربي, وإنما فقط تدرس من قبيل الأحداث التاريخية كما الخلافة الإسلامية.
فإن من بين المرتكزات التي قدمها روبرت ساتلوف – أحد خبراء الولايات المتحدة في مجال الدبلوماسية العامة في كتابه “كيف تربح معركة الأفكار؟” حول “ما لا يجب عمله” تجاه العالمين العربي والإسلامي- نصح بعدم استخدام مصطلحي “العالم العربي” و”العالم الإسلامي”, ورأى أنه يجب محوهما من المعجم السياسي والجغرافي, لأنه من الأجدى والأنفع للسياسية الخارجية الأمريكية أن تعمل في عالم من الدول المستقلة التي لا يجمعها جامع ولا تربطها ببعضها صلة, حيث لا تقوى أي منها من مواجهة النفوذ الأمريكي, بخلاف ما عليه الحال لو كانت هناك تكتلات وتنسيقات بين هذه الدول وبعضها.
وهذا ما يفسر كثيرًا ويعطى ملمحًا لما ترمي إليه الولايات المتحدة في فصم عرى الدول واستماتتها في فصل الملف السوري عن اللبناني, وما تروج له من “فوضى خلاقة” في المنطقة العربية ستنتهي – بحسب رؤيتهم وأحلامهم- بتفجير العالم العربي على من فيه, وتنشأ وضعيات جديدة تحقق الرغبات والطموحات الأمريكية أكثر مما عليه الحال الآن.
إن التحديات التي تواجه العالم العربي والإسلامي تحديات جسام تستهدف وجوده في الأساس وليست فقط تبحث عن تغييرات شكلية في بنية الأنظمة أو في سمتها وتوجهاتها.
المؤتمرات النائمة
وفي مقابل هذا المكر السيِّء والتدبير الماضي بجد وعزم نجد مشاهد الخذلان والانتكاس تلف تلك “المؤتمرات النائمة” التي أصبحت بذاتها إشكالية جديدة تضاف في ذيل الإشكاليات العربية المتأزمة والمزمنة.
فليس من قبيل جلد الذات ولا النظرة الدونية أن نقول: إن تلك المؤتمرات تساهم بوعي أو بدونه في تأزم الموقف العربي الموحد بدلاً من أن تكون منطلقًا لحل مشاكله, ومعوقًا له بدلاً من أن تكون دافعة له.
لقد بات الهم الأكبر في كل عام حينما يقترب موعد انعقاد القمة الدورية في شهر مارس هو البحث عمن حضر ومن تغيب, وأصبح نجاح القمة مرتهنًا بحضور العدد المشرف من الرؤساء والملوك والزعماء, وانتهائها دون مشاكل إضافية ومناوشات جانبية ومغادرات غاضبة متعجلة أملاً ما زال بعيد المنال.
إن مشاكل الأمة العربية لن تحل بكثرة متكاثرة من أمثال هذه المؤتمرات, لأن أسباب الفشل في التوصل إلى نتائج ترقى لمستوى التحديات بادية ظاهرة, فالانشغال بهموم المحافظة على “استقرار” الداخل في كل قطر والانكباب على التعاطي مع تداعياته وآثاره وإفراغ البال من هموم الوطن العربي بجملته إلا أن يكون ذا تأثير على الشأن الداخلي هو السمت الغالب والسمة المميزة الآن ومنذ حقبة من الزمن.
أضف إلى ذلك النزاعات والخلافات المتجذرة بين الزعماء وبعضهم, التي تلقي بظلالها القاتمة على مستوى الحضور ومستوى الطروحات والنقاشات, والتوترات الحادثة بين الدول التي تقف حجر عثرة في سبيل الوصول إلى أية قرارات ذات شأن تنتشل الأمة العربية من وهدتها ورقدتها الطويلة.
هذا فضلاً عن الحرص على إرضاء القوى الكبرى, وتجنب الانزلاق إلى أي قرار أو حتى دعوة قد لا توافق المزاج الأمريكي, وهو ما أشاع جوًا من الشكوك يكتنف دائمًا الحوارات والنقاشات, ويجعل من الوصول إلى قرار يرفع عن كاهل الأمة قدرًا من واقعها المر ضربًا من الخيال المفرط.
ناهيك عن فشل الجامعة نفسها في الوصول إلى صيغة متزنة يتم من خلالها اتخاذ القرارات وتفعيلها, فإن البحث يعييك إذا ذهبت تتلمس قرارًا صدر عن الجامعة ووجد له مصداقية في الواقع أو رفع عن الأمة ظلمًا أو أعاد لها حقًا مغتصبًا أو دفع عنها خطرًا مستشرفًا.
فثمة حاجة ملحة إذن إلى إعادة النظر في ميثاق الجامعة وآلية اتخاذ القرارات وتنفيذها, وتحويل القمم من “مجالس شورية” تركّز همها في الشجب والإدانة وتسجيل الاعتراضات والمواقف إلى “مجالس تنفيذية” يكون لقراراتها صدى ملموس في الواقع يحقق آمال الشعوب ورغباتها, ويكون على قدر التحديات التي تواجهها الأمة العربية.
إن المؤامرات الحالمة قد تصبح يومًا ما حقيقة مؤلمة وواقعًا مترسخًا يصعب زحزحته, بيد أن يقظة من المؤتمرات النائمة وصحوة بعد طول غفوة قد يفوِّتان على المتربصين أحلامهم ومؤامراتهم..