محاورة خاصة بين عروسين في ليلة الزفاف سمير بن الضو (تملالت)

كان شبه نائمٍ أتعبته شراسةُ الأيام، فتمنى لو يقدر على الزواج، ولكن تحسَّر حسرات، وزفَر زفرات، وقال: آهٍ لو أستطيع! لكنت تزوجت اليوم قبل فجر يوم الغد، ولكن لا أستطيع، وأنا أعلم جيدًا لماذا لا أستطيع.
ألحَّ على أمه: لا بد لي من الزواج، أريد أن أكمل ديني، وأغُضَّ طرفي، وأعفَّ فرجي، فقد طال ليلي، ولكن لم أَنَمْ، ونفى عني الكَرَى طيفٌ ألمَّ، فقض مضجعي، وأرَّق فكري، فرَثَت الأم المسكينة لحاله، وأشفقت على مصابه، فشمَّرت وتشمَّرت، وجالت وفتَّشت، حتى وجدت له فتاةً كأنها القمر، يزينها الوقار، وتكرمها العفة، من نظراتها تعرف قدر انضباطها، ومدى التزامها.
اتفقت أسرته وأسرة الفتاة على يومٍ تكون فيه الخِطبة، ويوم يكون فيه الزواج، فدفع لها مهرها، لم يكن يملك سوى ذلك المبلغِ الصغير الذي قدَّمَه لأسرة الفتاة كمهر لزواجه.
كان الفتى قد تجاوز العشرين ربيعًا بشهور فقط، لم تكن له تجارب في الحبِّ من قبل، وهو لم يمسس أيَّ أنثى مساسًا يخدش الحياء؛ ليس لأنه لا يستطيع، أو عاجز عن اقتراف الرذيلة، لكن كان لا يريد؛ فهو يحفظ المقولة الشهيرة التي تقول: “كما تدين تدان”، فخاف أن يُفعل بزوجته المستقبلية، كما سَيَفعل هو بزوجةِ غيرِهِ المستقبلية، وكان يؤمن إيمانًا راسخًا بقول الشاعر:
مَن يَزْنِ بامرأةٍ بألفَي درهم *** في بيتِه يُزنى بغيرِ الدرهمِ
فضلاً عن قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الزمر:13]، وكان يقولُ هذا لأنه متدين ملتزم، يعرف الله حق معرفته، ولأنه كان خائفاً من ربِّه، وكان يقولُ هذا لأنه كانت في حشاشةِ نفسه بقية أخلاق ورثها عن أسلافه، أو مَنَّ الله عليه حينما خصه بها.
وها هو قد بزغ فجر اليوم المشهود، اليوم المتفق فيه على الزواج، فوجد الفتى مستيقظًا لم ينم ليلته تلك، وكيف ينام وقد حان وقت قطف ثمرات صبره واصطباره؟ فبعد حينٍ ستصير له زوجة، تكون أمًّا له ولعياله.
هو لم يكن يرغب في احتفال صاخبٍ، كما تعارف عليه الناس في مثل هذه المناسبات، لكن أمه ألحَّت عليه في أن يأذن لها، ولو بساعة من نهار، لتقيم فيها حفلةً صغيرة تعبر خلالها عن فرحها وسرورها بزواج ولدها الصغير، فنزل الفتى عند رأي أمه مذعنًا لأمرها، وهو يقول في نفسه: مِن برِّ الأم طاعتها والانصياع لأمرها، ولو كنت كارهًا.
وانتصف النهار، والشمس في كبد السماء قد شارفت على الزوال، في هذه الساعة ذهب أبو الفتاة ليأتي بالعروس إلى بيت زوجها، وكانت هذه هي تقاليد الأعراس، ومن التقاليد أيضًا أن يختبئ الزوج عن الأنظار عندما تأتي عروسه إلى بيته في ليلة الزفاف؛ لكيلا يراها وكيلا تراه حتى يدخل بها، ولَمَّا أتت بعد حين أراد الفتى أن يختليَ بعروسه الخلوةَ الشرعيةَ؛ فهي الآن زوجته، والليلة ليلته، أباحها الله له.
ولكن على عادة القوم في الزواج، أحس بأهله وبأهل الفتاة يترقبون ويتحسسون ويتنبؤون، كيف سيفعل الفتى مع عروسه؟
فهذه هي عادة الأعراس، فأقارب الزوج من الفتيان يتهامزون ويتلامزون فيما بينهم: كيف سيفعل؟ ويقولون لبعضهم البعض: هل سيشرِّفنا أم سيُخزينا؟ وقريبات الزوجة من الفتيات يتهامزنَ ويتلامزنَ فيما بينهن: كيف ستفعل؟ وكأنها مباراة سباق، الكلُّ ينتظر مَن سيفوز، أمَّا حليلاتُ شيوخ الأسرتين، فإنهن ينتظرن أن يُخرِج لهن الفتى سروال عروسه مُلطخًا بالدم؛ ليضعوه على عصا طويلة، ويغنين عليه، عربونًا عن رجولته وفحولته، وعلامةً لفوزه في المباراة.
ولكن الفتى أراد أن يهدم كلَّ هذه التقاليد، ويطيح بكل هذه العادات الطائشة والخاطئة، فأخذ أمه من يدها، وانزوى بها إلى جانبٍ من الدار، وأخبرها أنه لن يخرج من غرفته حتى تشرق شمس الغد؛ لذلك قال لها: اذهبي يا أماه أنت ومَن معك، واخلدنَ للنوم وأرحنَ أجسادكن من شدة التعب؛ فما أحوجكن إلى قسط من الراحة!
دخل الفتى إلى غرفته، فوجد عروسه كأنها البيضة المكنونة، أو كأنها اللؤلؤ والمرجان، اقترب منها وحاول نزع ثوبها الذي يدرأ وجهها، فأبت وابتعدت عنه، ولم تقبل إلا بعد مكابرة وتَعَنُّت، فلما رأى وجهها، وشاهد جمالها، تفنن ثغره في صنع ابتسامة يملؤها السرور والابتهاج، وقال: لله ما أجملك! لله دَرُّ أبيك وأمِّك؛ إذ أنجباك تشبهين حُورَ الجنة! ثم استوى الفتى واقفًا، وهو يقول لعروسه: قومي فداكِ نفسي وروحي، الصلاة الصلاة، السُّنة السنة؛ ليبارك اللهُ لنا في هذه الليلة المباركة، وفيما بقي لنا من أيامٍ أُخَر، فقامت دونه، فصلَّى بها ركعتين أسوةً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم التفت إليها فألفاها تحمل راحتَيْها إلى السماء، وتغمغم وتجمجم بالدعاء إلى الله، فابتسَم ابتسامة خفيفة، وتركها حتى انتهت من ابتهالها إلى مولاها، فوضع يمينه على ناصيتها، وشرع يلهج بالدعاء والصلاة إلى ربه، أن يبارك له في زواجه وفي ذريته، وأن يأتيه بخيرها، وأن يذهب عنه شرها، وما إن انتهيا من دعائهما حتى جلسا يتناجيان ويتسامران ويتجاذبان أطراف الحديث، وبعد هُنَيْهَاتٍ أمسك بيدها فقبَّلها وهي وجلة خائفة، تمتنع عنه حينًا، وتذعن له حينًا آخر.
فقال لها بعد أن همس في أذنها أنه يحبها: اعلمي أن لك عليَّ حقًّا، ولي عليك حق، فقالت: أَبِنْ وأوضح؟ فقال: أمَّا ما لك عليَّ، فإني ذاكرٌ لك عشرَ خصالٍ فخذيني بها:
لك عليَّ في أولها ألا أظلمك.
وفي ثانيها ألا أضربك ضربًا مبرحًا.
وفي ثالثها ألا أهجرك إلا في المضجع.
وفي رابعها ألا أشبع دونك.
وفي خامسها ألا أكتسي دونك.
وفي سادسها ألا أغيب عنك مدة تستوحشين فيها.
وفي سابعها أن أنصفك من نفسي.
وفي ثامنها أن أعاشرك بالمعروف.
وفي تاسعها ألا أمنعك شيئًا تطلبينه.
وختام العشر أن أعينك على نوائب الدهر وحوادثه، هذه عشرة كاملة وافية.
وأمَّا ما لي عليك، فثلاثُ خصالٍ، احفظيها عني:
أولها: ألا تُدخلي غريبًا بيتي في غيابي.
أما ثانيها، فألا أراك مُغضبةً كالحة الوجه عابسة.
وثالثها: فأمي ثم أمي ثم أمي، فلم يبقَ لي في هذه الدنيا إلا تلك العجوز.
واعلمي أني أعرف أن لكل فتاة ماضيًا، وأن كل شخص فيه شيء من طهر الملائكة، كما فيه أيضًا شيء من خبث الشيطان؛ لذلك يا عزيزتي فأنا لن أسألك عن ماضيك؛ فهو لك وحدَك، وليس لي دخل فيه، والماضي شيء قد فات، وما فات مات، وما مات يُطوى في دفاتر النسيان ويُطمس؛ لذلك يا عزيزتي قَرِّي عينًا، وطِيبي خاطرًا ولا تجزعي، فلست بسائلك عن شيء من هذا، هنا انتفضت عروسه كما ينتفض العصفور الذي بلله القطر، ونزعت عنها جلباب الحياء، وقاطعته قائلة…
نكمل القصة في العدد القادم بحول الله تعالى…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *