من أبرز العلامات الدالة على صحة القلب وسلامته أن صاحبه يأنس بالله وطاعته وذكره سبحانه.
قال ابن القيم رحمه الله: “ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر” إغاثة اللهفان.
فضيلة مقام الأنس بالله
فالأنس بالله تعالى روح القرب منه جل وعلا، والأنس بالله تعالى حالة وجدانية تحمل على التنعم بعبادة الرحمن، والشوق إلى لقاء ذي الجلال والإكرام..
قال أحد السلف: “مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته”.
وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجهه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة، فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه وأنسه به أعظم.
الأنس بالله من مقامات الإحسان
فالأنس بالله مقام عظيم من مقامات الإحسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
قال أحد السلف: “من عمل لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص”.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه تعليقا على الحديث والأثر:” فهذان مقامان:
أحدهما: الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه.
الثاني: أن يعمل العبد على مشاهدة الله بقلبه، وهو أن يتنور قلبه بنور الإيمان”، (استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس).
يشير ابن رجب رحمه الله بكلامه هذا إلى منزلة المراقبة ومقام المشاهدة أو المعاينة كما يسميه بعض أهل العلم.
فـ”المشاهدة” ناتجة عن معاينة آثار أسمائه وصفاته تعالى في الكون، بحيث يترتب عن ذلك تنور القلب وتعلقه بالرب، وهذه المنزلة هي التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: “أن تعبد الله كأنك تراه” فهي رؤية حكمية.
أما “المراقبة” فهي العلم واليقين باطلاع الحق سبحانه على ظاهر العبد وباطنه، وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: “فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد كلامه السابق: “يتولد عن هذين المقامين: الأنس بالله والخلوة لمناجاته وذكره واستثقال ما يشغل عنه من مخالطة الناس والاشتغال بهم” (استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس).
الإيضاح لتحقق مقام الأنس بالرحمن من منزلة الإحسان
فمنزلة المراقبة إذا تحققت في العبد حصل له الأنس بالله تعالى.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: “متى تحققت المراقبة حصل الأنس” صيد الخاطر.
ووجه ذلك أنه إذا حصلت المراقبة يحصل القرب من الرب سبحانه، والقرب منه جل وعلا يوجب الأنس.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “والقرب يوجب الأنس والهيبة والمحبة” مدارج السالكين.
وقال كذلك رحمه الله: “وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب، فكلما كان القلب من ربه أقرب كان أنسه به أقوى، وكلما كان منه أبعد كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد” المدارج.
وإذا ارتقى العبد إلى تحقيق مقام المشاهدة والمعاينة لآثار أسمائه وصفاته في الكون بحيث يتنور قلبه حصل الأنس، ووجهه أن منشأ الأنس بالله تعالى ومبدؤه التعبد بمقتضى أسمائه تعالى وصفاته بعد التفهم لمعانيها.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “هذا الأنس المذكور مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها كاسم الجميل، والبر، واللطيف، والودود، والحليم، والرحيم، ونحوها” المدارج.
قال ابن عطاء رحمه الله: “المعرفة على ثلاثة أركان: الهيبة، والحياء، والأنس”.
وزيادة في الإيضاح نقول: أن التفهم لمعاني الأسماء والصفات يحمل العبد على معاملة ربه بالمحبة والرجاء وغيرهما من أعمال القلوب.
قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: “فهْمُ معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من: الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات” شجرة المعارف والأحوال.
ويقول العلامة السعدي رحمه الله: “إن معرفة الله تعالى تدعوا إلى محبته وخشيته ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، والتفقه في فهم معانيها..” تيسير الكريم الرحمن.
وتحقق كل من الرجاء في الله الذي يحمل على الطمع في الوصول إليه تعالى، وتحقيق مقام المحبة الذي يحمل على الشوق إليه سبحانه وغيرهما مما يتولد عن التفهم للأسماء والصفات والتعبد بمقتضى ذلك كما مر قريبا، سبيل إلى الأنس والاستئناس بالله.
قال ابن القيم رحمه الله: “..ولما كان الطلب بالهمة قد يعرى عن الأنس، وكان المحب لا يكون إلا مستأنسا بجمال محبوبه، وطمعه بالوصول إليه، فمن هذين يتولد الأنس، وجب أن يكون المحب موصوفا بالأنس..” المدارج.
وعليه فالعبد إذا ارتقى بالعلم النافع والعمل الصالح إلى مقام الإحسان واستقرت قدمه فيه أنس بالله تعالى والتذ بطاعته وذكره.
قال العلامة السعدي رحمه الله مقررا ذلك في منظومته واصفا أهل السير إلى الله والدار الآخرة:
عبدوا الإله على اعتقاد حضوره —- فتبوءوا في منزل الإحسان
ثم قال شارحا رحمه الله: “وهذه المنزلة من أعظم المنازل وأجلها، ولكنها تحتاج إلى تدريج للنفوس شيئا فشيئا، ولا يزال العبد يعودها نفسه حتى تنجذب إليها وتعتادها فيعيش العبد قرير العين بربه، فرحا مسرورا بقربه”.
بيان أن الأنس بالله ثمرة العبادة
ولذا فإن الأنس بالله تعالى ثمرة الطاعات والتقرب إلى رب الأرض والسماوات كما قال ابن القيم رحمه الله: “فكل طائع مستأنس، وكل عاص مستوحش كما قيل:
فإذا كنت قد أوحشتك الذنو —– ب فدعها إذا شئت واستأنس ” المدارج.
قال ابن الجوزي رحمه الله: “..إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة لأن المخالفة توجب الوحشة والموافقة مبسطة المستأنسين، فيا لذة عيش المستأنسين، ويا خسارة المستوحشين” صيد الخاطر.
قيل للعابد الرباني وهيب بن الورد رحمه الله: هل يجد طعم العبادة من يعصيه؟ قال: “لا، ولا من يهم بالمعصية”.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: “من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية”.
وعليه كان السلف الصالح الكرام، والأئمة الأعلام يتشوقون إلى فعل الطاعات، و يحرصون على تقديم القربات لرب الأرض والسماوات، ولا يسأمون من العبادات لأنسهم برب البريات.
قال الوليد بن مسلم رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس.
وهذا عامر بن عبد القيس التابعي لما أدرك في هذه الحياة الأنس بالطاعة بكى عند احتضاره، فقيل له ما يبكيك؟ قال: لا أبكي خوفا من الموت أو جزعا منه ولا حرصا على الدنيا، قال: أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل.
وسئل الشعبي عن الإمام الأسود بن يزيد النخعي فقال: كان صواما قواما حجاجا.
وهذا أبو عائشة الإمام التابعي مسروق بن الأجدع كان يصلي حتى تتورم قدماه.
قالت زوجته: فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه.
ولما حضرته الوفاة قال: ما آسى على شيء إلا على السجود لله تعالى.
وقال عطاء: أريت مصلى مرّة الهمداني مثل مبرك البعير.
إنه التابعي الجليل مرة الطيب، ويقال مرة الخير لعبادته وخيره وعلمه.
يقول الذهبي عنه: بلغنا أنه سجد لله تعالى حتى أكل التراب جبهته.
علامة الإفلاس الاستئناس بالناس
واعلم -عبد الله- أنه من علامات مرض القلوب، وضعف التعلق بعلام الغيوب عدم طاعة الله بالاستئناس، مع الأنس بالناس.
حتى قال أحد السلف: “علامة الإفلاس الاستئناس بالناس”.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “من فقد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف، ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول، ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله” الفوائد.
فاحرص على بلوغ منزلة الإحسان وفق العلم الأثري، والهدي النبوي، حتى ترزق الأنس عند الطاعات، ولا تستوحش إذا خلوت بذكر رب الأرض والسماوات، فليس العجب ممن لم يأنس بالله ولم يرزق التوفيق، وإنما العجب ممن أدرك ذلك وانحرف عنه إلى بنيات الطريق.