يرد بصر المنصف المتجرد للحق، وتقر عين الصادق في انتسابه لأمته، والمؤمن بخيريتها، المتشبع بعظمة مكانتها، المستبشر بماضيها العتيد التليد، المستشرف لتمكينها الموعود، المقر في غير ريب بفضيلة تفوّق عقول نخبها، وفطانة شبابها، وكل ذلك الرد وقرة العين والإيمان يتم وتم منا تصاحبه لوعة وأسى وأسف على تلك النخب العلمية والفكرية والثقافية التي تجد لأنفاسها ركزا، وحسن صنيع، وجميل مساهمة، وكبير تدبير، وبصمة تواجد نوعي في كبريات الجامعات، والمعاهد والمختبرات الطبية والكيميائية والوكالات الفضائية والمراصد الفلكية، والمشارح التجاربية الصحية، والمراكز الدراسية البحثية الأجنبية، والمنتديات الثقافية التداولية…
إن نجم هؤلاء لا يكاد يأفل ضوؤه، ولا يخفت نوره، ولا يتوارى وجهه اللامع المشرق المشرِّف، حتى إنك وأينما وضعت أصبعك على خارطة جغرافيا الغرب، وحيثما تفقدت آثار مدنية الرجل الأبيض، وفتشت بين رصيده المادي المبتكر المبهر تجد لحضور العقل العربي المسلم ملمح تواجد، وملحظ مشاركة بديعة، أو براءة اختراع انفرادي هام له وزنه وحظه وحصته من الجهد الجهيد الذي راكم هذا الاختراع أو وضع هذا الابتكار، أو ساهم في ذلك الازدهار.
إنها عقول كبيرة وُلدت تجري في أوصالها دماء العروبة، بله دماء الإسلام الذي لا جنسية له تحجر واسع امتداده، ولا لسان يقوض مشروع بيانه، طيور أصيلة هجرت أوكار مسقط الرأس، ليحل بها المقام تحت طائلة النفع الإنساني، معززة مكرمة ذات شأن وعظمة شأو، لا يرد لها طلب، ولا يرجع في وجهها رغب، ظلت بل حرصت الأوطان الغربية الحاضنة المستقبلة حفية بها، مقدّرة محتكرة لجهدها النوعي، ممارسة سطوها وسطوتها على كل مساهماتها ذات النفع الإنساني المتعاظم في شتى حقول العلم والمعرفة بل والسياسة أيضا.
إنها نخب لا تزال ولم يزل عددها النوعي في ازدياد وتكاثر، فرحم الأمة ولّاد، وبطنها حبلى بهذه النماذج الفريدة التي انتفع وينتفع بصنيعها كل أحد، عدا أوطانها غير المكلومة ولا المفجوعة على فراقها، إنها عيّنة من الأذهان المتفوقة التي تشرح وتقر لهذه الأمة بتميّزها وفرادة تاريخها وأصالة حضارتها التي علّمت الغرب أصول الاستحمام وقواعد النظافة، وكانت سباقة في بلاد الأندلس إلى تنزيل مشاريع البنيات التحتية الهيدرولية وقنوات الواد الحارـ تحت أرضية ـ البديعة الهيكلة، في زمن كانت فيه كبريات الشوارع الأوربية يمشي فيها المترجل الأوربي جنبا إلى جنب يشاطره السير ويزاحمه طافق سيل المياه العادمة النتنة الريح، المقبوحة الجِرم، المتلكئة الدفق…
إنها أدمغة وكفاءات عليا استطاعت أن تصنع الفارق والحدث هنالك، فقد استفادت من خبرتها النوعية ومجهوداتها الصادقة، وانخراطها المسؤول الملتزم، واندماجها الحقيقي السلس، دول المهجر وأوطان الاستقبال المدخون القصد والنوايا، بينما كان الأجدى والأنفع أن تستفيد منها أوطانها الأم التي ما فتئت تشكو عطلا في محركات التنمية على كثير من الأصعدة والميادين، كما زالت تئن تحت وطأة النسب العالية للأمية المتفشية في صفوف عوامها، بله في سخائم نخبها السياسية، وهي التي حققت مزدوجة الإشباع والإمتاع في ميادين التفاهة واللهو واللعب، والإفلاس الأخلاقي، والتسفل في كل نقيصة، تسفل قد خرق خرقا غائرا في حاضرها، فجرّها عبر نزيف حاد إلى خسائر مادية، وبوار اقتصادي، وتهتك اجتماعي، يقرؤه للأسف الشديد إعلامها البئيس وفصيل المنافقين من نسيجها الاجتماعي على أنه إنجازات ومكاسب وقفزات تحققت على مدارج سلم الترقي والعروج إلى علياء الحداثة والمعاصرة، ما فتئ صبيبها الجارف يصب في رصيد مدى تطورها، ومدى انخراطها واستجابتها لمقومات الحداثة وما بعد الحداثة.
إنها نخب لا تزال تحتفظ في دواخلها بإحساس صادق يحيل على أمل قريب أو بعيد، ولكنه غير مستحيل، أمل في العودة إلى أحضان الأوطان وصرف الجهود النوعية منها والاستثمار في طاقاتها الكامنة لتحقيق الرفاه والازدهار وكفاية المؤنة والاستغناء الذي يكرس الاستقلال ويضمن الوثوب إلى منزلة الأعلون، وينخرط بكليته في الإعداد الذي يعيد للأمة مجدها المفقود ورصيدها التاريخي التليد والمعهود، والتحرر من ربقة النظرة الاستعلائية للغرب الذي بث في روعنا عبر أبنائه بالرضاعة أن الذكاء بخصوصنا باب يولج إلى النحس، وأن الغباء فينا مظنة لمغنم الثراء.
نعم إنه الغرب المستقوي بعدته وعتاده وآلته الحربية الجائرة في بغي وعدوان، ذلك الباغي الذي فرض علينا جزية القعود مع الخوالف، عبر معاهدات واتفاقيات وتوصيات تذهب كلها مذهب التقعيد لتبعيتنا له، وتأبيد جلوسنا على حافة الاستهلاك، وإلزامنا رصيف الزبونية، ننتظر مع المنتظرين في طابور استجداء حاجاتنا من الدواء والكساء والغذاء بل وسياسة شأننا الداخلي، والويل ثم الويل لمن تمرد أو انتفض أو انقلب ممزقا لصنعة اللبوس هذه، رائما خلق استقلال ذاتي في ميادين الحياة وحاجاتها.
إن علاقة الغرب بنا في هذا المقام تبقى علاقة الصنم المستعلي مع العابد المريد المستخذي، علاقة مستقوٍ بات يملك وسائل الاعتداء وعدة الاستعباد وعتاد الاستبداد، وتلك حقيقة وإن أنكرها المنكرون وضرب صفحا عن الالتفات إليها المطبلون لمدنية الرجل الأبيض، فإن التاريخ المعاصر راكم من الشواهد الحية ما يكرس هذا البوح، فقد انتهكت سيادة دولة عربية، عظيمة التاريخ، عريقة الحضارة، دولة العراق بدعوى وزعم امتلاكها لأسلحة الدمار الشامل، وإنما كان الاعتداء والبغي والاعتساف الصليبي الوصي منطلقا مِن ونحو بغية تقليم أظافر هذا المتمرد على توصيات المنع من الحوم حول حمى الابتكار الصناعي، ومن ثم قطع بنان واستئصال شأفة سياسة مأمول الاستقلال الصناعي التكنولوجي والحربي الذي فكرت في تنزيل بل شرعت فعلا حكومة العراق بقيادة الرئيس صدام حسين رحمه الله في أجرأته وتفعيل مشاريعه العلمية والتنموية الجريئة والمتجاسرة بمقاييس الغرب الحاجر وتقديرات عينه الراصدة.
إن من المضحكات المبكيات أن تجد الكثير من بني الجلدة قد انخرطوا بكل إصرار في تكريس النظرة التي تركن ماضينا وتغمر حاضرنا وترهن مستقبل أمتنا في وحل الجهالة والتخلف، رابطة جنسنا وملتنا بكل نقيصة، وكأننا في فلسفة تفكيرهم خلقنا لنكون حطب وقود للمحرك الحضاري والمادي لركب الغرب الريادي ودوره في إعمار الأرض وبث روح الإبداع والزينة في مناكبها، حتى صار المشرق والمغرب العربيان رمزين ذوَي حمولة سلبية سالبة، مسلوبة الإرادة والاختيار، إنه لدور مقيت أن يطفق هؤلاء المستنسخون في وكزنا بجرعات الفشل، وحقن أوصالنا النابضة بأمصال اليأس والقنوط، وتصوير وجودنا بذلك العدم الذي لا جدوى منه ولا طائل نفع، ففي عالم قد وطئت فيه أقدام الرجل الأبيض أديم العرجون القديم، ما برحنا السفح غارقون منشغلون نتشدق بفقه الحيض، ونفصل تفصيلا مقرفا في آداب التخلي، وهلم جرا من معهود النبز المسجل علينا في هذا الخصوص.
ولكم تمنيت أن يتصف هؤلاء بالحد الأدنى من خلق الإنصاف، وأن يتلبسوا ولو على سبيل التمثيل والتقمص بفضيلة التجرد لمرة واحدة، وأن يجانبوا في نظرتهم وإبان إصدار أحكامهم، وتجسار الرمي بمُفصل نبزهم التطفيف والانحياز المخاتل، في مقابل الهيام حد الإخبات والإنابة والعشق المجنون للمنتوج الصقيعي المُعَلّب ولو كان مضرًا مقبوح السيرة قبيح الأثر، إن فلسفة أدوارهم المدخولة هي رفع عقيرة المكاء والتصدية والزغردة لكل ما له هوية غربية، نظير ازدراء وتصغير وتحقير وتسفيه واستسذاج كل مجهود ذي طابع محلي فيه ريح عروبة أو إسلام، إنها مهمة إلصاق الجهل وجعله أصلا أصيلا في سيرة العرب والمسلمين، في مقابل تكريس صوت المنّ ورفع صراخه الملحون، وتذكيرنا بين الفينة والأخرى بأننا لا نساوي شيئا وليس منا شيء، وأنه لولا الغرب لكنا قوما بدائيين نمشي بين الأنام حفاة عراة غرلا نركب حميرا وبغالا ونرعى غنما وإبلا…
ولكم وددت أن أسمع من هذه الكسور المتربصة من الداخل بوحا يحيل على اعتراف ناشز يتيم بمنجزات وإبداعات واختراعات وجهود أبناء الإسلام والعروبة هنالك في جامعات ومعاهد ومستشفيات ومراكز البحث ووكالات الفضاء والطيران ومراصد الفلك، ولعلها سيرة حسنة طارت كل مطار هناك وهنالك، عدا هنا حيث الكتمان والتكتم، وحيث الإنكار والتنكر، وحيث الجحود والتجحد…
إنه مَنٌّ تذكرني تفاصيل مروقه وتجاسره بما دار بين فرعون وكليم الله موسى وقد ألجمه عليه السلام بما جاء به من آيات وحجج وبراهين، فلم يجد فرعون بدا للفرار من سطوتها وغلبتها في مقام الإقناع والإمتاع، والإشراق فالإحراق، إلا ركوب صهوة المنِّ ومطية اجترار ذكرى “فوكزه موسى فقضى عليه” إذ قال الله سبحانه وتعالى على لسان هذا الظالم العنيد المتكبر مصوِّرا خطابه المتعجرف لموسى عليه السلام :”قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين”
ولقد رد عليه موسى بحكمة بالغة بُهت من قوة دفعها الذي كفر، إذ ختم سياق محاجّته له بما جاء في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام:”وتلك نعمة تمنّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل”.
ما أعظمها من جملة وما أزكاه من رد نرمي به اليوم في حضن الذين ملأوا سماء تواضعنا ضجيجا، وحركوا سواكن ضعفنا بيد بطشهم، وصدر منهم اللوم والعتاب تجاهنا على ما فرضوه علينا من وصاية توهين، لقد رمونا في جب الجهالة ثم جاءوا آبانا عشاءً يبكون، ألا ساء ما صنعوا بنا وباطل ما كانوا يعملون.
إننا أمام صوت المنّ المتعالي منهم تارة والصادر من سفرائهم المحليين من أبناء الجلدة تارة أخرى، لا نملك في مقام المدافعة بالتي هي أحسن إلا أن نردّد مقول موسى لفرعون بشيء من التصرف في المبنى، محتفظين بعين القصد ونفس المعنى قائلين:”وتلك نعمة تمنونها علينا أن حجّرتم على سواعدنا، وتلصصتم عقولنا، وسرقتم ثرواتنا، فعشنا نرسف في قيودكم إلى يوم الناس هذا، تحت طائلة الوعد والرغب لمن هادن وتماهى وساندكم، والوعيد والرهب لمن خالف وتمرد وعاندكم…”