أرشدنا القرآن الكريم إلى وسائل التمسك بالدين، وبيَّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم أسباب الهداية ومسالك النجاة، فالقرآن الكريم والسنة النبوية، تتكاملان منهجا وتتفقان غاية ومقصدا، يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ» الأنفال:24، ومن أجل اتباع هذا الهدي وتحقق تلك الغاية وبلوغ مسلك النجاة، نجد أن القرآن الكريم والسنة النبوية يدعوان إلى التمسك بالعروة الوثقى، والتزام القبض عليها، فهذه إشارات عن بعض معانيها وما تحمله من دلالات عميقة، تنعكس على حال أمتنا المسلمة وما ستؤول إليه على ضوء نصوص القرآن والسنة النبوية.
العروة في اللغة كل ما يُقبض به أو يُؤخذ به لغرض الحمل أو الفتح أو الإغلاق أو غيره، «..وعروة الدلو والكوز ونحوه: مقبضه. وعرى المزادة: آذانها. وعروة القميص: مدخل زره.. وفي الحديث لا تشد العرى إلا إلى ثلاثة مساجد هي جمع عروة، يريد عرى الأحمال والرواحل..» اللسان: 10/129.
والوثقى صفة مشتقة من أوثق يوثق إيثاقا، وهي تعني الربط والشد والإحكام، «..أوثقته إيثاقا ووثاقا، والحبل أو الشيء الذي يوثق به وثاق، والجمع الوثق بمنزلة الرباط والربط. وأوثقه في الوثاق أي شده.. والوثيق: الشيء المحكم..» اللسان: 15/153.
وبذلك يتجلى المعنى المراد بأن العروة الوثقى في الدين هي كل ما يستمسك به لقصد لزوم الدين والاعتصام بأحكامه والقبض على تشريعاته، وهذا المعنى تقترن به صفة التعلق الشديد مخافة الانفلات أو الهلاك، والتمسك بعرى الإسلام سبيل من سبل النجاة ومسلك من مسالك السلام، يقول الله تعالى: «وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُو مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ» لقمان: 22.
فالله عز وجل يحصن عباده المستمسكين بحبله ويعصمهم من السقوط في أوحال المعاصي ومن الوقوع في براثن الفتن، كما يصون وحدة الأمة ويجمع شتاتها ويحصنها من التفرقة، لأن هذه العرى شديدة الإحكام صلبة التماسك، قوية التراص، لا تنفك ولا تنحل ولا تنفصل ما دمنا متشبثين بها.
وهذا معنى بليغ وغاية عليا، فنحن باعتبارنا مسلمين أحوج ما نكون إلى استشعار أهميتها، والعمل بمقتضاها، خصوصا بعدما انحرف المسلمون عن المنهج القرآني وتخلوا عن الهدي النبوي، فصارت الأمة فرقا متناحرة وطوائف متضاربة وجماعات متصارعة كل حزب بما لديهم فرحون، يقول الله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» آل عمران: 103.
فحبل الله المتين كتابه عز وجل وهو النور الساطع، والفرقان بين الحق والباطل، «..عن عبد الله بن مسعود قال: حبل الله القرآن..، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذا القرآن هو حبل الله»،.. والجماعة، روي عنه وعن غيره من وجوه.. فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة..» القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 4/152.
ويكمل ذلك ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد تركتُكم على البيضاءِ، ليلِها كنهارِها، ولا يزيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ، ومن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتُم من سُنَّتي، وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدين المهديِّينَ، عضُّوا عليها بالنواجذِ..» السلسلة الصحيحة:937، مادام القرآن الكريم هو الهادي والمرشد والسنة النبوية هي المفسرة له المفصلة لعموم أحكامه، ومعنى العض بالنواجذ يتفق مع المراد بالقبض الشديد المقتضي للحزم والعزم، كما يستلزم هذا القبض، في الأصل، التزام الصبر والتحمل والجلد وكلها دالة على ذات المعنى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي علَى النَّاسِ زمانٌ الصَّابرُ فيهِم على دينِهِ كالقابِضِ على الجمرِ» صحيح الترمذي: 2260، في إشارة واضحة على التفاف الفتن بالمؤمن وإحداقها به، وهذا توصيف بليغ عن حال المسلمين في عصرنا ممن صبروا على التضييق والتجويع والتشريد والتقتيل، وممن تحملوا الاستهزاء والتهكم والتشويه، بسبب صدق إيمانهم وإقامتهم لأحكام دينهم، وأدائهم لشعائره، واقتفائهم أثر نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وصفة، فيلزمهم بذلك الثبات على الدين ولزوم التمسك بعراه، فما داموا على هذا المنهج سائرين، ولهذا السبيل سالكين، كان حقا على الله نصرهم، فلا يُقام الدين إلا بالتضحيات ولا يؤسس للحق والعدل إلا بتحمل المشاق، وهذه سنة ربانية ماضية في الكون إلى يوم الدين، يقول الله تعالى: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» العنكبوت:69.
التمسك بالعروة الوثقى هو اتباع للمنهج الرباني الفريد الذي ينسف بقيمه الكونية الخالدة كل مبادئ وقيم الطواغيت، ويقوض بوحيه الإلهي جميع أركان معتقدات ونظريات مناوئيه، يقول الله تعالى: «فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» البقرة: 256.
وهذا مظهر جلي من مظاهر التمسك بعرى الدين إن لم نقل أنه الأصل الذي ينبني عليه، وهو إثبات التوحيد بالله تعالى ونفي الشرك به عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عُرَى الإسلامِ وقواعِدُ الدِّينِ ثلاثةٌ عليهِنَّ أُسِّسَ الإسلامُ، ومَن تركَ واحدةٌ منهنَّ فهو بها كافرٌ حلالُ الدمِ: شَهادةُ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ، والصَّلاةُ المكتوبةُ، وصَومُ رمضانَ» الترغيب والترهيب: 1/262 (حسن).
«..ومن مقتضيات الإيمان بالله البراءة من التصورات الجاهلية والكفر بها.. وقد قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، «ينقض عرى الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية»، فمعرفة تاريخ الجاهلية وتصوراتها يزيد المؤمن إيمانا.. والمعرفة بمسار الأفكار الجاهلية ودخائلها، حصانة ضد الوقوع في شيء منها.. ويصاحب هذه المعرفة إيمان بالله صحيح واعتزاز بشريعته، وفقه بالحلال والحرام، وإلا أتت المعرفة محرفة شوهاء..» علي محمد محمد الصلابي، صفحات من تاريخ ليبيا الإسلامي والشمال الإفريقي: ص: -6667.
وفي سياق آخر فقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم، بمآل المسلمين بعدما تتعاقب عليهم القرون، ويبتعدون شيئا فشيئا عن الصراط المستقيم والنهج القويم، فتتوالى عرى الإسلام في الانتقاض، وتنفلت من تمكن الناس الواحدة تلو الأخرى، ابتداء بعروة الحكم وانتهاء بعروة الصلاة، وحالنا اليوم شاهد على هذا المآل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لتنقَضنَّ عُرى الإسلامِ عُروةً عروةً فكلما انتُقِضتْ عروةٌ تشبَّثَ الناسُ بالتي تليها وأوَّلُهنَّ نقضًا الحُكمُ وآخرُهنَّ الصَّلاةُ» أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، برقم:21139.
اللهم اجعلنا من المتمسكين بعرى الإسلام، ووحد كلمتنا على الحق.
والحمد لله رب العالمين.