متى يحمد الشك ومتى يذم؟ هذا السؤال استدعاء، أو هو استحضار مقصود لنفس السؤال الذي طرح أثناء تلك الجلسة الأخوية الحميمية العلمية المشار إليها في أول هذا المقال. والذي كانت صيغته: “هل الشك فضيلة؟ أم هو رذيلة”؟
فأن يكون الشك محمودا، أو يكون مذموما دينيا وأخلاقيا، أطروحة تجنبنا ما أمكننا خوض غمارها. بحيث إننا تركنا الباب مفتوحا على مصراعيه أمام ممارسته كفعل، لا يملك الإنسان حياله غير القبول به. واقعا تحت طائلة الإطلاق، أو واقعا تحت طائلة التقييد. مع التأكيد الفوري على أن الواقعين تحت طائلة هذا الأخير، عبارة عن مجموعات بشرية هائلة: مجموعات ذات معتقدات دينية، ومجموعات ذات قناعات فكرية، أو سياسية، أو اقتصادية. بحيث إن شكها غير مطلق. فمعتقدات الأولى تفرض عليها القبول بما اعتقدته، عدت من أتباع الديانات السماوية، أو عدت من أتباع النحل والأهواء والملل والميولات الذاتية، كالطوطمية والبوذية والمجوسية. بينما نميز في المجموعات الثانية بين فئتين: فئة تصبح القناعات لديها كالمعتقدات. وفئة تعودت التذبذب بين الشك واليقين. بعيدا عن الدخول في التفاصيل التي تستدعي تدبيج مئات المقالات في ذات الموضوع.
وبما أننا مؤمنون مسلمون، وبما أن الإيمان معروفة حدوده ومجالاته وآفاقه الواسعة. وبما أن الإسلام معروفة أركانه وضوابطه ومقتضياته. وبما أن ديننا على العموم معتقدات وعبادات ومعاملات وأخلاقيات وحكم وأمثال وكونيات. فإن أي شك يتطرق إلى أذهاننا بخصوص فحوى الآي الكريمة، وبخصوص فحوى ما صح من أحاديث المختار صلى الله عليه وسلم، تترتب عليه أحكام من الصعب إصدارها على أي مؤمن بغير علم، وبلا أدلة، وبعجالة. ولو أننا على بينة من أن المحكوم عليهم بها، يوصفون مرة بالضالين المضلين! ومرة بالفجار! ومرة بالفساق! ومرة بالمارقين! ومرة بالمنافقين! ومرة بالكافرين!
ونملك في هذا السياق أدلة كافية على صحة ما ندعيه، دون الخوض فيها جميعها لكثرتها من جهة، ولاتساع تشعباتها من جهة ثانية، مما يلزمنا بتقديم نموذجين منها باختصار، مع دعوة أي قارئ لـ”جريدة السبيل” إلى المساهمة في إصدار الحكم العادل الذي يستحقه من اخترناهم ممثلين للنموذجين المذكورين قبله.
أولا: وجد الغزالي حوله قبل تصوفه مجموعة من الفرق التي تدعي كل واحدة منها أنها تملك الحقيقة. وكيف تملكها وأفكارها جميعها متناقضة ومتباعدة؟ هذا كان سؤال الرجل ومبعث شكه الذي أنشب في عقله مخالبه؟ فكان أن عبر عن ارتيابه بقوله: “الآن بعد حصول اليأس، لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات، والضروريات: فلا بد من إحكامها أولا، لأتيقن أن ثقتي بالمحسات، وأماني من الغلط في الضروريات: من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليدات. ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات. أم هو أمان محقق لا غدر فيه، ولا غائلة له”.
ثم كان أن شك في المحسوسات والعقليات على التتابع من خلال هذه العبارات: “فقالت الحواس: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسات، وقد كنت واثقا بي، فجاء حكم العقل فكذبني. ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي. فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر. إذا تجلى كذّب العقل في حكمه. كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته”.
فإن كانت الحواس لا تُمكّننا من المعارف اليقينية، وكانت العقول مثلها كذلك. فما المخرج من هذه الورطة التي وجد فيها الغزالي نفسه؟
قال: “فأعضل هذا الداء(= الشك والحيرة والتردد). ودام تقريبا من شهرين. أنا فيهما على السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال. حتى شفي الله تعالى من ذلك المرض. وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال. ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين! ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام. بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف. فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة”.
مما يعني أن الكشف الذي افترضه الغزالي وسيلة وحيدة أنجع من غيرها للوصول إلى اليقين المطلق -بعد عجز الحواس والعقول عن الوصول إليه- لا يتحلى به ولا يدرك قيمته من ضمن الفرق كلها غير الصوفية. وهذا يدل على أن الحقيقة الناصعة لا توجد إلا لدى هؤلاء الذين هم في الوقت ذاته أهل الكشف.
لكن هل خرج الغزالي فعلا من الشك إلى اليقين؟
أم إنه أسير السفسطة التي وجد نفسه مكبلا بقيودها دون أن تنتهي به إلى الحق المطلوب. وإنما ألقت به في غياهب سفسطة أخرى أخزى وأبشع وأقبح وأضل؟
يعني أنها لم تنقذه من الضلال وإنما سلكت به مسلك الضالين التائهين، وإلا فمن أين للرجل بقدرة الصوفي على قراءة اللوح المحفوظ؟
ومن أين له بقدرته على قراءة ما في ضمائر الناس؟
وبعبارة أخرى: من أين له بقدرة الصوفي على معرفة الغيب الذي لم يزعم حتى المختار صلى الله عليه وسلم معرفته؟
ثم من أين له إرجاع مراتب التوحيد إلى أربعة: أعلاها -في زعمه- فناء الموحد في ربه إلى حد أنه لا يعرف من هو؟ ولا أين هو؟
مع العلم أن فاقد الوعي بالذات إنما هو كالمجنون الذي تسقط عنه المسؤولية حتى يعقل، كما تسقط عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، بدليل ما أخبرنا به سيد الناس صلى الله عليه وسلم؟
وهل حكم الغزالي على العلماء والفقهاء والمحدثين، بأنهم أبعد ما يكونون عن الحقيقة الدينية حكم عادل من وحي ما لدى الرجل من شطح أملى عليه ما أملاه كنور، أو ككشف تلقاه من غير ترتيب كلام ومن غير أدلة عقلية؟
ثم بماذا نشرح إفتاء علماء المغرب والأندلس بإحراق كتابه المشهور “إحياء علوم الدين”. وفي مقدمتهم القاضي عياض الذي كفره في “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”؟
ثانيا: ليركز معنا القارئ على ما سوف نسوقه من كلام رجل تصدى –على حد زعم الزاعمين– لإرشاد الخلق إلى الحق -وهو بأذيال الغزالي متمسك-.
قال: “أكتب هذا وأعلم أنه قول ثقيل لا يستسيغه الغافلون عن الله تعالى، ولقد مضى علي زمان كنت فيه أبحث عمن يعطيني الخبر اليقين عن وجود الجن ومخالطتهم للبشر، ورحلت في طلب ذلك رحلات بعيدة، ولما مَنَّ الله علي بصحبة أوليائه، بدا لي الحق واضحا أبلج. وجاءتني البراهين مما حدث لي أو لأقرب الناس إلي، على أن مأخذ الحق في كتاب الله وإخبار رسوله. وأصبح إيماني بالغيب والحمد لله يقينا. لأن الغيب عشته وبلوته ولمسته”!
وصاحب هذا النص الذي يبدو فيه تقليده المفضوح للغزالي، هو الذي خاطب ملك البلاد في “الإسلام أو الطوفان” بقوله: “ثم قرأت القرآن، فهو بحمد الله ولا يزال قراءتي الحقيقية الوحيدة”!
بعدها قال في نفس المرجع: “ووجدت أن الحق مع الصوفية كما وجده الغزالي (= قدوته وإمامه!). ولا أقف لأعتذر وأتواضع”. وكيف له أن يعتذر ويتواضع، وقد اعتراه الشك في وجود الجن وفي مخالطتهم للبشر؟ مع أن قراءته للقرآن هي قراءته الوحيدة الحقيقية!!! لكنه لم يتيقن من كل ما ورد فيه! بحيث إنه آمن ببعضه، وكفر ببعضه الآخر! فكان أن أدار إلى الكتاب والسنة ظهره! على اعتبار أنهما غير موثوقين بخصوص ما ذكر فيهما عن الجن وعلاقتهم بالإنسان! وعلى اعتبار الأولياء الذين صاحبهم أوثق منهما، خاصة وأنه ادعى أن الحقيقة لا توجد إلا لدى الصوفية! فعلى يدهم تأكد له وجود الجن! بل وعلى يدهم تأتى له الإيمان بالغيب.. مما يعني أنه ظل لفترة خارج الإيمان والإسلام باعتراف منه! والبقية يعرفها قراء مؤلفاته كمرشد، في أمس الحاجة إلى من يرشده. يكفي أنه قد شمر عن ساعديه للتمكن من قراءة اللوح المحفوظ والاطلاع على الغيب، والحال أن كل من حاول مثل محاولته، يدخل فورا في عالم من تصدر عنهم نبوءات أشبه ما تكون بنبوءات العرافين. يصيب مرة ويخطئ الصواب في تسع وتسعين مرة! مع التأكيد على أنه لم يحصل في آخر المطاف إلا على ما حصل عليه الغزالي. نقصد الخروج من اليقين، والدخول في معمعان الضلال الذي يتحمل مسؤولية نشره في المخدوعين من أتباعه ومن غير أتباعه!
إن الشك إذن باختصار شديد، عملية لا مناص من ممارستها، لكن التمييز فيه بين ما هو سلبي، وبين ما هو إيجابي، تمييز يفرض علينا نفسه، وإلا تحول من شك عادي بناء، إلى شك منحرف هدام. فالبناء منه لدى المسلمين الملتزمين بالتحديد، هو الذي يتسلح به أولا حماة الدين من كل وجه، وهم عدول أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل زمن وفي كل مكان. ويتسلح به ثانيا من لا يرتاحون إلى شروح أو إلى تأويلات، هدف أصحابها إما توضيح مراده سبحانه وتعالى من هذه الآية أو من تلك. وإما توضيح مراده صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث الصحيح الوارد عنه أو من ذاك. إذ أننا -ونحن جميعا مسلمون- لا نقبل بدون تمحيص أي مكتوب يدور حول المعتقدات والعبادات والمعاملات والأخلاقيات. إما للوقوف على ما يحمله من محاسن، بحيث إنه يلقى منا التشجيع المطلوب. وإما للوقوف على ما يحمله من مساوئ، بحيث إنه يلقى منا اللوم والعتاب والنقد الذي تتفاوت درجات شدته، كواجب تفرضه علينا حمايتنا للدين من كل خطر يهدده أو يتهدده!