صلاح الأنفس هو ملاك الأمر

من المقرَّرات في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة حسن الظنِّ بالله تعالى في جميع الأحوال، والعود على النَّفس بإساءة الظَّنِّ، وعدم الاغترار بما يكون عليه العبد من الصَّلاح في الأقوال والأفعال، لما قد يشوب ذلك من مفسدات في الباطن لا تظهر للعيان، أو ما يؤول إليه الحال في الختام، فالأولى بالعبد أن يشهد على نفسه بالتَّقصير في جميع الحالات، وأن يديم سؤالَ الله تعالى العفوَ والتَّجاوز عن الخطايا والزَّلاَّت، وعدم المؤاخذة بالذُّنوب والسَّيِّئات، وحسن العواقب والمآلات، قال ابن تيمية رحمه الله: “رؤية التَّقصير، وشهادة التَّأخير من نعمة الله على عبده المؤمن، الَّتي يسْتوجب بها التَّقدُّم، ويتمّ له بها النِّعمة، ويُكفى بها مؤنة شيطانه المزيِّن له سوء عمله، ومؤنة نفسه الَّتي تحبُّ أن تُحمد بما لم تفعل، وتفرح بما أتتْ” مجموع الفتاوى (06/352).

وعليه؛ فإنَّ المصائب الَّتي تحلُّ بنا إنْ على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدُّول، فلتقصيرٍ من عند أنفسنا، وهذا يجب أن يُفهم على أنَّه معادلةٌ صحيحةٌ سليمةٌ لا ينقضها شيء، وإلاَّ فما معنى أنْ يُطلق الله تعالى القول في كتابه: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى 30]؛ «فما حصل للعبد حال مكروهة قطّ إلاَّ بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» «مدارج السَّالكين» (1/424)؛ وقال تعالى مخاطبًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [النساء 79]، وهذا خطاب له صلى الله عليه وسلم، وجميع الأمَّة داخلون في ذلك بطريق الأولى، كما يقول العلماء المحقِّقون.
قال ابن تيمية رحمه الله: “فبيَّن أنَّ النِّعم والمصائب من عند الله؛ فالنِّعمة من الله ابتداءً، والمصيبة بسبب من نفس الإنسان، وهي معاصيه” منهاج السُّنَّة (03/147).
فمصيبة تسلُّط اليهود والنَّصارى اليوم على المسلمين ليس سببه قوَّتهم فحسب، بل بما آلت إليه أنفس المسلمين من حبٍّ للدُّنيا وركونٍ إلى ملذَّاتها وشهواتها، وعزوفٍ عن طلب الآخرة وطلب مرضاة الله تعالى، وتفريطٍ في أداء الواجبات ظاهرًا وباطنًا، وتعدٍّ صارخ على حدود الله وشرعه ظاهرًا وباطنًا، قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران 165]، مع أنَّ المخاطَب يومئذ في غزوة أحدٍ هم خيار النَّاس وصفوة الخلق؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم، فأعلَمَهم أنَّ سببَ المُصيبة من عند أنفسهم ليحذروا.
لذا كان لزامًا أن تعود الأمَّة على نفسها باللاَّئمة وتوقظ هذا الشُّعور في جميع أفرادها، لينظر كلُّ فردٍ في حاله ويتفقَّد نفسه؛ لأنَّك لو تأمَّلت ما في هذه الآيات الكريمات لوجدتها تردُّ سبب المصائب والانهزامات إلى “الأنفس”، أي أنَّ السَّبب داخليٌّ قبل أن يكون خارجيًّا، فإذا كان الأمر كذلك عُلم أنَّ مدار الأمر على النَّفس البشريَّة، وهي حجر الزَّاوية -كما يقال اليوم- في عمليَّة الإصلاح، أو في أيِّ محاولة للخروج من مصيبة الذُّلِّ والهوان الَّذي نعانيه، وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك صريحًا في قوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد 11].
هذا التَّغيير، أي تغيير الأوضاع، بأن نغيِّر المعصية بالطَّاعة، والكفر بالشُّكر، وأسباب سخط الله علينا بأسباب رضاه، هو الإصلاح المطلوب، حتَّى يُغيِّر الله علينا العقوبة بالعافية، وتسليط الأعداء بالنَّصر، والذُّلَّ بالعزِّ.
فيجب أن تتوجَّه العناية إلى إصلاح النُّفوس وتهذيبها وتنقيتها من شوائبها وشرورها، حتَّى تسعد الأمَّة بأفرادٍ صالحين ومتَّصفين بالصَّلاح الَّذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا بالصَّلاح المستمد من نظريَّات الرِّجال، ومن أفكار الغرب وزبالة أذهان البشر، فالصَّالح من الرِّجال والنِّساء في لسان الشَّرع قرآنًا وسُنَّةً كما قال العلامة ابن باديس رحمه الله: “هو من استنار قلبه بالإيمان والعقائد الحقَّة، وزكت نفسُه بالفضيلة والأخلاق الحميدة، واستقامت أعمالُه وطابت أقوالُه، فكان مصدرَ خيرٍ ونفعٍ لنفسه وللنَّاس، استقام نظامه في عقده وخلقه وقوله وعمله، فعظمت وزكت منفعته، وهذا هو معنى الصَّالحين حيثما جاء” (تفسير ابن باديس207).
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “وجماع الصَّلاح للآدميِّين هو طاعة الله ورسوله، وهو فعل ما ينفعهم، وترك ما يضرُّهم؛ والفساد بالعكس؛ فصلاح الشَّيء هو حصول كماله الَّذي به تحصل سعادته، وفساده بالعكس؛ والخلق صلاحهم وسعادتهم في أن يكون الله هو معبودهم الَّذي تنتهي إليه محبَّتهم وإرادتهم، ويكون ذلك غاية الغايات ونهاية النِّهايات” (درء تعارض العقل والنقل 05/169).
فلو انتبه كلُّ مَنْ أراد النَّصيحة لهذه الأمَّة وسعى في خيرها لسطَّر عمله على هذا الأساس وجعل دعوته على هذا المنوال، وصدق القول أمام أفراد الأمَّة بأنَّ انهزامنا وضعفنا وتمكُّن الأعداء منَّا مردّه إلى أنفسنا، فلنصلحها وليعمل كلُّ فردٍ منَّا على البلوغ بنفسه إلى درجة من الصَّلاح تجعله معتزًّا بدينه وبربِّه تعالى وبنبيِّه صلى الله عليه وسلم، لا همَّ له ولا غاية له إلاَّ مرضاة الله تعالى؛ وإننَّا إذا بلغنا بأنفسنا إلى هذه المراتب تحقَّق لنا وعد الله الَّذي لا يتأخَّر إذا وجدت أسبابه، ورفعت عنَّا الهزيمة والذّلة، وخلفها النَّصر والسَّعادة، وعاد إلينا ما سلب منَّا؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون﴾ [الأنبياء 105].
فلا تُنصر الأمَّة إلاَّ بمن سلِمَت عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم من الشِّرك والبدع، وقلَّت معاصيهم وكثرت طاعاتهم. وليس تُنصر أبدًا بمخالفة سنَّة سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ولا بتاركي الصَّلاة، ومانعي الزَّكاة، وآكلي الرِّبا والرِّشوة ونحو هؤلاء من أتباع الأهواء والشَّهوات، ممَّن يسهل عليهم مخالفة أمر الله في أحكامه، وترك سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد 7]، فهؤلاء في حقيقة أمرهم لا يزيدون الأمَّة إلاَّ وهنًا على وهن، ويُوَسِّعون على الرَّاقع الخَرق؛ وهذا ما لا يريدُ أن يسمعَه كثيرٌ من المتحمِّسين الَّذين قلَّ نصيبهم من العلم بالكتاب والسُّنَّة، ويلوي عنقَه معرِضًا، ويعدُّه ضربًا من التَّخذيل والتَّثبيط للهمم والعزائم، وعدم فقهٍ للواقع؛ هذا الواقع الَّذي أسلموا أمرهم له، فصاروا طوعَ أمر الواقع لا طوعَ أمر الشَّارع، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله؛ وامتطوا مناهج مستحدَثة ومسالكَ مبتدَعَة تستمدُّ موادَّها وتصوُّراتِها من بقايا فكرِ فِرقٍ وطوائفَ انحرفت عن أهل الحديث والسُّنَّة، ولم يلتفتوا إلى طريقة الأنبياء عليهم السلام في الإصلاح والتَّغيير؛ لأنَّها -في زعمهم ولو بلسان الحال- لا تتماشى وروح العصر والأساليب الحضارية، وما ذلك إلاَّ لأنَّهم استطالوا الطَّريق واستعظموا المشقَّة، واستعجلوا الثَّمرة، ورأوا أنَّ الإصلاح بهذه الطُّرق المحدَثة أسهل على النُّفوس، وأيسر على الرَّئيس والمرؤوس؛ ألا فليعلم هؤلاء أن تنكُّبَهم عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستوجبُ العقوبةَ، ولا تجني الأمَّة منه إلاَّ تأخُّرا عن النَّصْر، وتعطُّلاً عن الظَّفَر.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *