تحت عنوان “الواقع والممكن المغربي”، أقيمت ندوة في (مدرسة الدراسات العليا للتجارة بباريس) في يوم الجمعة خامس يونيو 1908 من قبل الماركيز de segonzac الذي يعتبر من بين أول الباحثين الذين قاموا بالتجول في الغرب، وإنجاز دراسات حول مكوناته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية جعلته أحد الأربعة أو الخمسة في هذا الوقت الذين يعرفون الإمبراطورية الشريفة، مما يجعله مرجعا أساسيا لترشيد عمليات غزو المغرب واستعماره.
قدم الماركيز في هذه الدراسة ما سار إنجيلا للمنظرين والساسة الاستعماريين، وكذا الضباط والحكام الموصوفين بالمراقبين المدنيين الذين أوكل لهم مهمة تدبير الغزو، ثم التهدئة، فالحكم المباشر للمغاربة وتدبير شؤونهم المدنية والسياسية والثقافية والدينية، بحيث لا يمكن لمُراجع التواجد الفرنسي بالمغرب ألا يعثر على توجهات الماركيز فيما جرى من مناشط على أي مستوى من المستويات جل أو قل، وفيما يلي مختصر هذه الدراسة، مع تذييلها بتعليق من أحد الحاضرين في الندوة.
نص المحاضرة:
(نبحث الآن في هذه المحاضرة عن الكيفية التي يمكن بها تحضير -من الحضارة- جيراننا -يقصد جيران الجزائر لأنهم كانوا يعتبرونها مقاطعة فرنسية وقتها- البرابرة، ونجعلهم يتحلون بالتسامح، وفي نفس الوقت ينعمون بالأمن والازدهار.
من أجل الحديث مجازا بالطريقة البربرية نتساءل: كيف يمكن إنعاش السلام على أرض البارود هذه؟
من أجل غزو بلاد ما، لا يلزم فقط أن تكون قويا من أجل فرض التهدئة وإعادة التنظيم، بل يجب قبل كل شيء التوفر على معرفة عميقة بطبيعة الأرض وتاريخ البلد المراد غزوه، ونمط عقلية سكانه.
اختراقنا للمغرب يقدم نموذجا مثاليا يوضح هذه الأوليات، نحن غير مقدرين المغرب، نحن قبلنا لغاية اليوم الوهم الشائع من طرف السلطان نفسه الذي يمثل الإمبراطورية الشريفة الأرستقراطية الشاسعة التي هي بالتأكيد وحدة سياسية ذات تماسك ديني هام، انطلاقا من هذا التحديد نخلص إلى أن أحسن وسيلة والأكثر نجاعة واقتصادا والأكثر حذرا لاستعمار المغرب، الحصول على تعاون هذا السلطان، ليس فقط باعتباره الرئيس الزمني الحاكم للبلد، ولكن لأنه الرئيس الديني المسلم به.
هناك أمر آخر يتوجب ذكره، وهو أن المغرب ليس إمبراطورية كما تدل عليه الكلمة، وإنما هي تجمع موزاييك، من القبائل البربرية، تقاتل بجنون من أجل الاستقلال الظاهر لنا نحن المتابعون اليوم لتحركاتهم بأنهم عصاة مقاتلون نهابون، رافضون لكل القوانين مع أنهم جوهريا ديموقراطيون.
هكذا كانوا قبل أن يأتي العرب، وهم إما وثنيون أو يهود أو مسيحيون، اختيارهم الديني سطحي، يمارسونه بسذاجة وحب رائعين، ميالون للاعتقاد في المنجمين، ومعجبون بصناع المعجزات، يتبعون المتنبئين، تنظيماتهم الاجتماعية بدائية.
التجمع الوحيد الذي عرفوه توقف عند الأسرة التي تتكتل مع غيرها لتكون اتحادية ذات أهمية، بحمل اسم القبيلة، أو القبائل أو النواحي، والذي يدار من طرف أعيان يسمون بالنفاليس، الذين يكلون أمر التنفيذ لرئيس وقتي يطلق عليه أمزراك، يعتبر في الترتيب الثانوي من التسلسل السلطوي في الاتحادية.
هذا النظام الاجتماعي ما يزال موجودا لحد الآن حيث البرابرة يعيشون مستقلين عن العرب الذين مروا على المجتمع البربري كإعصار دمر كل شيء في مساره، واضعين في نفس الآن اختيارهم الديني وقانونهم بقيادة عقبة بن نافع، أكبر داع وقتَّال مرعب الذي بعدما قطع منتصرا مصر وصحراء ليبيا وكل شمال إفريقيا دفع حصانه في أمواج المحيط وقال: “والله لو عرفت أن وراء هذا البحر أقواما لاجتزته حتى لا أترك خلفه من لا يعبد غير الله”.
الموجة الثانية المهمة في عددها هي التي دخلت في القرن الثاني عشر، وتسمى هجرة الهلاليين غرَّقوا إفريقيا الشمالية بحوالي 400 ألف عربي رجالا ونساء، بربر المغرب في السهول الأطلسية خاصة اعتنقوا الدين واللغة والتنظيمات الإجتماعية الأرستقراطية والنظريات العربية، قيادهم حكموا البوادي، والباشوات حكموا المدن.
هكذا تواجد البربر الديموقراطيون في تداخل مع العرب الأوتقراطيين، ومع مرور الزمن سيختفي الحماس الدعوي للعرب، ويصير دينهم أعوج فرديا، ويتأسلم البربر بالقوة، ويصبح الجميع يحيى ويموت بأوامر شريف في زاوية، هذا التقديس خطير بالنسبة للإسلام المغربي، إنه يجعله غير قادر على التماسك من أجل الحرب المقدسة، لذلك تعتبر نهاية الهيمنة العربية خسارة مرتين: سياسية ودينية، ستفيدنا فيما نقدمه من تعليم نفيس ننتظر منه المساعدة في تطوير المغرب الذي نحن اليوم ممسكون بشؤونه، بالرغم من أنه بلاد غير متشكلة لا هوية لها ويتعذر الإمساك بها، وضبطها في شكلها الحاضر، وإقامة أي حكم بين ساكنتها المفككة المجزأة هباء منثورا.
فنحن نحاول تنظيم مجتمع يمتلك غرائز وعادات العرق، لذلك يجب أولا منح البربر حريتهم القروية ليعودوا كما كانوا قبل دخول العرب عندهم، لإدارة نواحيهم التي لا توجد بها سلطة مركزية على الأقل بواسطة رؤساء يختارونهم بحرية لتعلقهم وشغفهم بها، تكون بداية قيام سيادة متروية شديدة الحذر، تكون نواة لتنظيم الغرب من جديد، وهنا سنتحدث عن مسألة التنظيم من الوجهة الداخلية، ونبحث في بعض العمليات التي نريد اختبارها في القبائل داخل البلاد وعلى الحدود مع الحوادث التي نحدثها.
هذا الجانب من المشكل قوي التوقع لأنه كما تعلمون ليس لنا مشكل مباشر في التواصل مع القبائل المغربية في بداية الدخول، لكن المشكل يظهر بعد الدخول، لذلك يجب البحث في الطريقة المثلى للتعامل مع السلطان ومخزنه، فما يهمني هو أن يكون السلطان متعاونا معنا وقابلا لدعمنا له، وإبعاده عن الألمان الذين يريدون احتفاظ المغرب باستقلاله وقوته كل ما أمكن، ليكون عونا لهم في الحرب ضد فرنسا، وإفقادها قوتها بالجزائر، وحتى لا يقوي احتمالا القوات الفرنسية.
لذلك يجب أن يكون السلطان متعاونا معنا كيفما كان الحال وبأي ثمن، وعندنا فرصة كبيرة لإرغامه على ذلك، مادام المغرب مفتقرا للمال والجنود، فارغ الصندوق بعدما تعثرت جباية الضرائب التي لا تحصل إلا باستخدام القوة من قبل موظفين فاسدين، وهو قابع وحده في قصره لا يخرج لمباشرة دوره، فلدينا فرصة فضلى لاحتوائه، وعلينا تصعيد الحديث عن قرض كبير سائل يرتفع إلى 150 مليون فرنك، يسمح للسلطان بإرجاعه داخليا، مما يضع عجلة الدولة في ورطة.
أنا لا أناقش الرقم، كما أدعوكم ألا تفكروا إلا في القيام بتلك التضحية التي تؤدي بنا للحصول على النتائج المرضية، وهي وضع السلطان تحت تصرفنا، وإذا لم يتم ذلك فلن يعدم من يقوم بذلك، وقتها سيتعرض تفوقنا في إفريقيا الشمالية لخسارة عظمى.
بالتأكيد، سنكون مراقبين لتوظيف ذلك المال، ليس فقط عندما يتطلب الأمر كما هو الآن عن طريق رئيس البعثة الفرنسية، لكن ينبغي تحديد الشكل الجديد الواجب للقيام بذلك التدقيق.
وسيستخدم القرض في تنظيم الجيش المغربي، الذي كما تعلمون كان السلطان قد طلب سنة 1877، بعثة عسكرية فرنسية مكونة من عدد من الضباط وضباط الصف، تتكلف بتعليم تلك القوات، لكن البعثة بسبب الحسد والتمويل لم تتمكن من القيام بمهامها، وكانت مضايقة من طرف مدربين من مختلف الجنسيات، ألمان، إنجليز، إيطاليين، مستقلين بدل أن يكونوا موحدين، يكفي القول بأن القائد ماكين يكلف السلطان 100 ألف بسيطة، و40 حصانا وبغلا، والدكتور فيردون من البعثة الإنجليزية يقبض 30 ألف بسيطة، البعثة الفرنسية كاملة تأخذ فقط 60 ألف فرنك، مهندس ألماني يقوم ببناء بطارية على المحيط يأخذ عشرة ملايين ولم يطلق أبدا أية طلقة مدفع.
بعثة إيطالية بقيادة الكولونيل فيريرا تنتج السلاح بفاس، تأخذ ستة أو سبع مرات من ثمنها الحقيقي، وهكذا الباقي، لكن الأكثر خطورة هي الإخلال بالواجب، وابتزاز الموظفين المغاربة من الوز ير الكبير إلى قائد المائة، الكل يسرق، هذا هو الواقع.
المهام تشترى ولا كفاءة لأحد، لابد للرسميين من استرجاع المال قبل متابعة مأموريتهم، ورواتب الجنود الخارجة من الصندوق الشريف لا تصل أبدا للجنود، الذين تتناقص مداخيلهم فيبيعون ذخيرتهم وأسلحتهم وملابسهم، ويستجدون في انتظار أداء لاحق.
لن أذهب بعيدا لترقيم الإصلاح العسكري الممكن، لكن لا بد من ادخار مسبق، ونفس المشكل مع ادخار الأعيان، بإمكان السلطان الحصول على جيش حقيقي وعلينا مساعدته، وهذا ليس كل المطلوب، فلابد للمواقع التي تحتل في الإدارة أن يتعامل معها بذكاء حتى لا تبقى منتهبة، ولا تكون نهائية، فالمعروف من قبل الجغرافيين أن الإمبراطورية الشريفة ثنائية، بحيث تتكون من مملكتي فاس ومراكش تفصل بينهما جبال مسكونة بقبائل مستقلة، هذا الوضع جعل المغرب غير محكوم بالكامل، وترَك السلطان في محنة، إذا توجه لفاس ثار الجنوب، وإذا عاد للجنوب ثار الشمال، فيعيش دائم الجري بينهما، ولكي يستقر المغرب كان من الواجب إقامة قصبات عسكرية على الطرق الكبرى لإقامة الأمن ومراقبة أي تحرك للإخلال به بين العاصمتين فاس ومراكش، ومراقبة الأسواق حماية لمرتاديها وتأمين سلعهم وأموالهم.
خريطة الأسواق المغربية تكون شبكة تواصل اقتصادية ضروري معرفتها للوصول إلى القبائل التي في الجبال.
نشير إلى أن تنافس الزوايا يقدم لنا خدمة هامة في تذليل الصعاب، التي قد تعترض توغلنا في الداخل، وتسهل حركتنا، كالطيبية والقادرية والدرقاوية والعيساوية، إذ لا شيء منطقي وثابت يمنع من دعم بعضها للإضرار بالآخرين، وإغناء الذي يعمل بجد لصالحنا، والترخيص لمقدميه بالعمل في المناطق المعادية لنا قصد توسيع نفوذه.
في الوقت عينه الذي نعمل على تقوية وحدة البلاد، سنعمل على جعل المغرب أرثدوكسيا موحدا دينيا، وجعل العلماء الرسميين يأخذون الوجهة العملية ليصيروا مثل مسلمي الجزائر ينحون نحو التسامح ونحو التقدم؛ إن ما أقوله ممكن التحقق وليس نظريا فقط، وإنما هي أفكار عملية أنهيها بمثالين أحدهما سياسي واقتصادي، والآخر ديني.
جنوب المغرب معزول عن باقي المغرب بجبال الأطلس، المحيط والصحراء داخلة في ثلاث واجهات أخرى، ممثلو السلطان لا يوجدون في هذه النواحي إلا بشكل قوي مضبوط، إنهم يخافون تهديدات الأجانب، نحن بإمكاننا التوسط بين سكان الجنوب والسلطان، وسيكون بالنسبة للحكومة والمخزن عملا جيدا من الناحية السياسية والاقتصادية، فرجال الجنوب لا يتطلب سوى تعزيز ولائهم، ثم إن خزينة المخزن المغربية ستنمى من الجنوب، بفضل وضعنا أمناء لاستخلاص عائدات التجارة في موانئ أكادير وماسا، واكلو واساكا وكب جولي، وتتولى شركات الملاحة تسيير تلك الموانئ، كما تعطى تراخيص للصيادين المتواجدين في الشواطئ تسمح لهم بالصيد مقابل رسوم يؤدوها للحصول على تلك الرخص، كما سيتم استغلال معادن الأطلس، كما سيطلب من السلطان التواجد في تارودانت مثلما يتواجد في باقي العواصم لتعزيز الولاء له وتقوية سلطة نوابه.
أما الجانب الديني، فشريف وازان كما تعرفون محمي فرنسي؛
مولاي حفيظ المعارض لخططنا سنتعامل معه بما يناسب الوضع وتقتضيه المصالح.
تافيلالت المعزولة، متعصبوها الذين يعادون تواجدنا ليس في بلادهم وإنما في كل المغرب، ولا يترددون في النهوض لمحاربتنا حيثما تواجدت مراكز جنودنا بشكل جماعي، ويعترضون قوافلنا الوهرانية المتواجدة داخل القبائل الثلاث الكبيرة.
قبيلة ايت عطا قائدها الديني المحترم، يمكن استمالته نحونا، خاصة وأنه صديق لي يتواجد في تامصلوحت، مولاي الحاج الذي أبدل الحماية الإنجليزية بالحماية الفرنسية منذ خمسة عشرة سنة، حيث يوجد ولده كتلميذ بـ”ليسي الجزائر”، وقد مات في الشهر الفائت دون أن يعين خليفة له، ولن ننتظر كثيرا لنجعله في خدمتنا لمواجهة تافلالت).
وقد تدخل بول ديسيلاني بعد المحاضرة، فقال:
“لقد أوجدت لنا سيدي كوزانليز الوسيلة المثلى المرجوة لملامسة الأرض المغربية بأسرع وقت وأحسن طريقة، واستعادة الديموقراطية البربرية التي اختفت بعد الاجتياح العربي، مما يؤكد أن الشعب الأوروبي الوحيد الذي عمل شيئا ما جيدا بالمغرب.
إذا ما قدر أن تراجعنا سياسيا أو عسكريا للدار البيضاء، شيئا فشيئا أتصور أننا لن نحصد من الغد نتائج جهودنا، بل سيكون شكلا آخر من أشكال ترك واجبنا الحضاري، وتخليا عن كل احتمالات الحياة والثراء للفرنسيين خاصة والأوربيين عامة.
بالمقابل بعد تكوين قوات الاحتلال شيئا فشيئا كما فعلت اسبانيا مع الريفيين الذين يعتبرون مقاتلين جيدين إذا ما نحن منحناهم أجورا مجزية، فبعد تكوين أولى الوحدات المطلوبة لقواتنا، سيتسنى لنا اتباع نهج البرتغال الذي ارتكز على تنظيم احتلال القبائل بالقبائل نفسها.
يجب ألا نسقط في الأخطاء التي وقعنا فيها منذ ستين سنة، أنا لا أضيق ولا أعارض الغزو، فمنذ تواجدنا بالجزائر أصبح من الواجب أن يكون المغرب هادئا بجانبنا، وتلك هي مهمة فرنسا التي يجب عليها القيام بها وإكمالها بحيث لا نترك لأبنائنا المهام الصعبة التي تركها لنا آباؤنا في هذا البلد المجاور لنا.
لدينا الإمكانيات والأعوان المطيعون متى دعوناهم للعمل مثل: دماد، فليبر، ليوطي، بحارة وجنود هائلون مستعدون للقيام بالمطلوب منهم على أكمل وجه وأحسنه.
نحن في المستوى الذي يؤهلنا للغزو دون أفكار مسبقة، في احترام لحرية التجارة مع الجميع”.