إن قضية إصلاح منظومة التربية والتكوين أصبحت قضية وطنية وأولوية ضمن النموذج التنموي الجديد الذي يراهن عليه الشعب المغربي خصوصا في ظل أزمنة تفشي فيروس كوفيد-19، وقد اخترت أن يكون الحوار رفقة الدكتور سعيد العلام حول موضوع “السياسة التربوية بالمغرب ورهانات مستقبل المنظومة”.
-مررنا بمجموعة من الاصلاحات -الميثاق الوطني، المخطط الاستعجالي، الرؤية الاستراتيجية، القانون الإطار- هل فعلا نتحدث عن إصلاح حقيقي في ظل هذه المحطات المذكورة؟
- العملية تبدو لي تقييم للسياسات التربوية منذ الميثاق إلى الرؤية، وهو ما يستدعي مشروع كتاب أنا في طور إنجازه وليس جوابا مقتضبا عن سؤال. ويمكن أن نجمل تقييمنا لهذه الاصلاحات بعبارات مقتضبة تلخص هوية الإصلاح في كل مرحلة من مراحله. أعتقد أن الميثاق كان لحظة تحول أساسية من هوية المدرسة الوطنية بمبادئها التي راهنت عليها الحركة الوطنية (التعميم، المجانية، الوحدة، المغربة)، إلى مدرسة بهوية جديدة تعكس روح إجماع واشنطن التي هيمنت على ايدولوجيا البنك الدولي، وهو بداية التوجه نحو ايديولوجيا السوق التي تبشر بها العقيدة النيوليبيرالية (Néolibéralisme)، لم يكن توجه الفاعلين في المغرب إلى ليبرالية في الإصلاح بقدر ما كان مناورة للانتقال السياسي.
وهو ما جعل الميثاق محتضنا لمفاهيم السوق ضمن السياق البيداغوجي (الجودة، الانتاجية، الفعالية، الرأسمال البشري…)، فضلا عن تحويل المحتوى الايديولوجي لليبرالية الجديدة إلى محتوى بيداغوجي ضمن ما سمي المقاربة بالكفايات. لقد جاء المخطط الاستعجالي ليس مسارا تصحيحيا لاختيارات الإصلاح، بل مجرد إنقاذ لسيرورة تشكل المدرسة الخادمة للسوق، فكان الإصلاح متجها نحو الجواب عن فرضية خاطئة، اختزلت الإصلاح في تجاوز الإكراهات البنيوية وليس معالجة الاختيارات الاستراتيجية، فضلا عن تكريس التوجه نحو السوق باعتماد بيداغوجيا الادماج كاختيار بيداغوجي. لقد حاولت الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 التوجه نحو الاختيار القيمي ضمن سياق تقويم اختلالات الميثاق والمخطط الاستعجالي، بالتوجه نحو التفكير في المرتكزات القيمية (مدرسة المساواة والإنصاف) دون الخروج عن النسق العام للتوجه الليبرالي (مدرسة الجودة)، من خلال اعتماد (إعلان إنشيون – التعليم بحلول عام 2030: نحو التعليم الجيّد المُنصف والشامل والتعلُّم مدى الحياة للجميع) كمرجعية للإصلاح، إن سيرورة الاصلاح المرتهنة بإجماع واشنطن وإعلان إنشيون، عرفت تيها في بناء تصور خاص، يعكس التجربة المغربية المرتبطة بخصوصية المجتمع المغربي، وبرهاناته المستقبلية. يبدو أن مسار الاصلاح لم يطرح الأسئلة الجوهرية والتفكير قي ربط المدرسة بالمجتمع وتلبية المتطلبات والحاجات الاساسية دون اختزالها في متطلبات السوق. إن الاصلاح الحقيقي هو الارتهان بمشروع مجتمعي يتجه رأسا إلى بناء الانسان، وهو ما لم نلامسه بعد في مختلف مشاريع الاصلاح.
-هل سنحتاج لرؤية شمولية وسياسة جديدة للنموذج التنموي الجديد خصوصا بعد تفشي فيروس كورونا؟ أم أن الدولة والوزارة الوصية ستبقى على حالها؟
-ما دام النموذج التنموي لم يعلن عن ملامحه بعد، فإن جوابنا سيكون محض توجيه أو مقترحات للاسترشاد. وقبل ذلك يمكن أن نقدم بعضا من توقعتنا لهذا النموذج بالنظر إلى مؤشرات دالة تفصح عن توجهات النموذج، تأثير البنك الدولي المتزايد في الاختيارات العامة، امتثال السياسات العمومية للبراديغم المعمم للحوكمة في بعدها المُعَوْلَم. ويمكن الحديث هنا عن ثلاث اختيارات أساسية قد تؤثر في وظيفة المدرسة وترهن السياسات التربوية ببلادنا: أولا: التوجه نحو دولة الحد الأدنى، أي تراجع دور الدولة الداعم للإنفاق العام (التعليم والصحة…)، الشراكة خاص/عام كخيار استراتيجي للتدبير العمومي، أي إعطاء دور مهم للقطاع الخاص، التوجه العام نحو خدمة السوق، أي النزعة الاقتصادوية المهيمنة على السياسي.
من خلال هذه المظاهر يبدو أن أزمة كرونا ستعيد طرح أسئلة حيوية ستقلب البراديغم التنموي المُعَوْلَم، فقد أبانت الأزمة عن نزعة لا إنسانية لهذا البراديغم وعن محدوديته في ضمان الأمن القومي، وكذا استيعاب المطلب الاجتماعي خصوصا في القطاعات الاجتماعية (التعليم والصحة)، وهو ما يستوجب إعادة النظر في ترتيب الأولويات من جهة، ومراجعة فلسفة التدبير المتجهة إلى النموذج التدبيري للقطاع الخاص، لأنه يعمل بمنطق براغماتي، ومرتهن بالموازنات العامة عوض التفكير في الانسان كغاية وليس مجرد وسيلة. واعتقد أن هذه الأزمة اظهرت بالملموس الحاجة إلى إعادة النظر في وظيفة المدرسة من مجرد كيان خادم للسوق، إلى بنية اجتماعية محددة لكيان المجتمع، وظيفتها بناء الانسان في بعده الغائي القيمي الأخلاقي.
-فيروس كورونا قلب الرؤى العالمية فما بالك بالدول العربية خصوصا فيما يتعلق بالتعليم ونحن نعرف أننا في المراكز الأخير من التصنيفات العالمية كيف ترون هذا الأمر؟ هل سنعرف ثورة علمية؟ هل سنبادر في إيجاد سياسة تربوية راشدة بالمغرب؟
- إن كان هناك من تحول في الرؤية العالمية، فهو تجاوز الأيدولوجيا الاقتصادوية للعولمة، والتي جعلت المنظمات العالمية المختصة (UNESCO) تبني استراتيجيات وهمية مرتهنة بهذه الارادة الكاسحة للعقيدة النيوليبيرالية(Néolibéralisme).
- ورغم إنني لا أؤمن كثيرا بهذه التصنيفات ولا بمؤشراتها، لأنها تساهم في هذه التصنيفية المؤدلجة؛ لكنني على قناعة أن جائحة كرونا، ستعيد النظر في مصداقية هذه المنظمات التي يبدو انها خادمة لهيمنة القوى المتحكمة في السوق العالمي (أوليكارشيا المال).
- كما أنه من المؤكد اليوم لدى كل دول العالم أمام سقوط قناع الدول الغربية، هو اعادة النظر في سياساتها التربوية/التعليمية، وتغيير اختياراتها سياسيا وبيداغوجيا، سواء من حيث إعادة ترتيب أولويات الانفاق العام (عودة مفهوم الاختيار الاجتماعي للدولة)، أو من خلال إعادة النظر في مقارباتها البيداغوجية المرتكزة على فلسفة الادماج في السوق إلى بيداغوجيات جديدة مرتبطة بمواكبة التحولات التي سيعرفها العالم بعد جائحة كرونا. إننا أمام حتمية بيداغوجية متجهة نحو تثمين البحث العلمي، وتغيير وظيفة المدرسة.
- إن الأكيد أننا لسنا في منآى عن هذه التحولات وأن مصيرنا بأيدينا. ويبدو لي أن الخيار الانساني للمنظومة هو الرهان الحقيقي للمستقبل، ومدخله الاساسي هو بناء الكائن الاخلاقي.
-ثنائية التعليم العمومي والخصوصي في زمن فيروس كورونا، عوض أن يساهم في إصلاح منظومة التربية والتكوين وأن يكون رافعة قوية، نتفاجأ بطلبه الدعم من الحكومة الوصية؟
– إن المؤكد من درس جائحة كرونا، هو أنها أزمة إنسانية بالدرجة الأولى، بمعنى أبرزت الوجه الحقيقي للعولمة المبنية على ايديولوجيا الليبرالية الجديدة، والتي تولي أهمية للقطاع الخاص، وتؤمن بعدالة السوق وغائيته، من خلال شعار “السوق ذاتي التنظيم”، لذا كانت الدعوة إلى الشراكة خاص/عام دعوة لا تخرج عن نطاق الربحية وانتهازية الرأسمالية.
فليس مستبعدا أن نشهد أزمة هذا النموذج (ريادة القطاع الخاص) بالتوجه نحو رأسمالية الدولة (النمط الصيني)، وبالتالي التفكير بجدية في إعادة الاعتبار للتعليم العمومي، باعتباره الامتداد الطبيعي للمجتمع برمزيته المتعالية عن الربحية والتشييئية (Réification) التي تفقد الانسان معنى وجوده ككائن غائي إلى مجرد إنسان بضاعة بتعبير “لوكاتش”.
فالحاجة إلى الارتقاء بالفرد قيميا لن تكون بالتأكيد وظيفة للتعليم الخصوصي، بل إنها تَحَقُّق عيني لمفهوم المشروع المجتمعي. والذي أبانت جائحة كرونا حاجتنا إلى وعي جمعي، وقيم اجتماعية كلية أكثر انسانية بمنطق التضامن ليس في بعده المحلي بل العالمي. وما من مدخل أصدق من بناء مدرسة المجتمع بعيدا عن السوق والريع الاقتصادي الذي يمثله القطاع الخاص في مجال التربية؛ كما أن الحاجة ماسة إلى انخراط الجامعة والمدرسة في المجتمع، بدل شعار الانخراط في السوق.
فالمجتمع يحتاج اليوم إلى البحث العلمي وإلى قيادة علمائه ومثقفيه كقوة توجيهية ارشادية لسياساته العمومية، كما أنه بحاجة إلى ادماج أفراده في المجتمع والانخراط في قضاياه الحيوية، بدل الارتهان بايدولوجيا الادماج في السوق، والتي يعتبر التعليم الخصوصي أحد مظاهرها.
-هل يمكن تقديم رؤية شمولية ما بعد -فيروس كورونا- من أجل النهوض بقطاع التربية والتكوين؟
- قد تكون هذه دعوة إلى صناع القرار، بإعادة النظر في اختياراتهم السياسية في مجال منظومة التربية والتكوين، لذا سأكون مختصرا وأعتبر أن جائحة كرونا درس تاريخي ينبغي أن نأخذ منه العبر قبل فوات الاوان والتي ألخصها في التالي:
أولا: مراجعة الاختيارات الاستراتيجية التي تحاول جعل المدرسة خادمة للسوق، والكف عن اعتبار المنظومة التربوية مجرد ريع اقتصادي يخدم المقاولة والسوق الاقتصادي. بل اعتبار المدرسة مؤسسة اجتماعية ممتدة نحو المجتمع وليس السوق، والتركيز على ما اسميه الامكان البشري بدل الرأسمال البشري ذو الحمولة الاقتصادوية.
ثانيا: الاهتمام أكثر بالبحث العلمي وجعله أولوية حيوية للمجتمع، لأن المستقبل في بعده المرتبط بالأمن القومي، رهين بانخراط الجامعة والمدرسة في القدرة على تحصين الذات من الآفات والخطر المحدق؛ وتحقيق الاكتفاء الذاتي في القدرات الحيوية (غداء، مواد طبية، تكنولوجيا…).
ثالثا: إعادة النظر في المقاربات البيداغوجية وفلسفة التربية، بالاتجاه نحو تنمية الوعي والارتقاء بأفراد المجتمع، بدل الجهد الكلي في التنمية الاقتصادية. فأزمة كرونا أبانت أن الشعوب الواعية والمجتمعات المنضبطة قيميا هي القادرة على تخطي الأزمات، وليس المجتمعات المتقدمة اقتصاديا والفقيرة قيميا.
رابعا: إن أزمة كرورونا أنتجت خطابا حمائيا، وأبانت عن نزعات توحدية للأمم، وهذا يعني التعويل على الذات، ورفع الانتاجية والاكتفاء الذاتي. كما أبانت عن فاعلية الدول القادرة على الابداع والابتكار والتكيف، وهو ما يعني التفكير في استراتيجيات للتحفيز وسياسات لتشجيع الابتكار بالاستثمار في العنصر البشري، والمدرسة هي القادرة على خلق هذه القيم والنهوض بهذه المهمة.
خامسا: إعادة النظر في تصور المدرسة، واستيعاب التحول وسيرورة التغيير الذي يعرفه العالم، بالتوجه نحو مدرسة جديدة تدمج التعلم عن بعد، وتعتمد وسائل ديداكتيكية جديدة. فالتجديد البيداغوجي بات ضرورة حيوية، وربما يؤسس لمدرسة المستقبل التي ستتجاوز مفهومي الفضاء الصفي وزمن التمدرس.
الدكتور سعيد العلام، حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية والإجازة في الفلسفة من جامعة محمد الخامس بالرباط، أستاذ التعليم العالي بمركز تكوين المفتشين بالرباط، رئيس مركز الدراسات والأبحاث في منظومة التربية والتكوين.