في الوقت الذي يحرص فيه الباحث عبد الحكيم أبو اللوز على إلصاق تهمة العنف بالسلفيين، بل بالمنهاج السلفي الذي ينتسبون إليه، يتناقض حين ينتقد قناعتهم في مسألة طاعة ولي الأمر قائلا: (ومن المبادئ المؤسسة للامتثالية عند السلفية التقليدية الشعار القائل: “لا نكران ولا هجران ولا خروج”؛ والمعنى أن التمرد والخروج على ولي الأمر فيه مفاسد كثيرة ولا خير فيه للأمة الإسلامية مهما بلغ ظلمهم وجورهم.
من الواضح إذن، أن جزءا من الحركات السلفية المعاصرة تكتفي بترديد الإيديولوجيا التقليدية التي روجها العلماء القدامى، عندما قالوا بوجوب الطاعة الكاملة وعدم شرعية الإعلان عن الجهاد على السلطان وجر الأمة إلى الفتنة وخدمة العدو، ليبقى مجال التحرك السياسي الوحيد المتوفر هو النصيحة، من خلال المشورة مع إبدائها بمراعاة للضوابط الشرعية، بعيدا عن لغة الإلزام أو التشهير، فالبلاغ يقيم الحجة ويبرئ الأمة.
إن إنكار العمل السياسي مقابل العمل الذي يعتبر عند السلفيين شرعيا ومنطقيا في آن واحد: نبدأ بالعقيدة ثم بالعبادة ثم بالسلوك تصحيحا وتربية، أما التحرك السياسي قبل تحقيق التصفية والتربية، فلن تكون له سوى نتائج سيئة) .
ولبيان ما في هذا الكلام من الأخطاء أقول:
1- وجوب طاعة ولي الأمر حكم شرعي وليس إيديولوجيا روج لها العلماء القدامى:
وهذا الحكم ثابت بالنص القرآني المبيَّن بالسنة النبوية:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء 59].
عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في مَنْشَطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثَرَةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله. قال: “إلا أن تروا كفرا بَوَاحا، عندكم فيه من الله برهان”. [متفق عليه].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية”. [متفق عليه].
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وحكمة هذا الحكم ظاهرة؛ فهو من أهم أسباب حفظ الأمن والاستقرار، ولا بد مع هذا أن ننظر إليه مستصحبين باقي الأحكام المنظمة للإمارة، ومنها ما يلي:
2- الطاعة مقيدة بالمعروف، ولم يقل عالم بوجوب الطاعة الكاملة:
وهذا القيد ثابت بالنص التشريعي؛ من مثل ما رواه الشيخان عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما الطاعة في المعروف”.
وبهذا القيد، وبغيره من الأحكام المؤطرة لنظام الإمارة خاصة وللعمل السياسي عموما؛ تحيط الشريعة الإسلامية الممارسة السياسية بعوامل العدل والرحمة والحكمة، وتبطل تهمة (الثيوقراطية) التي يصف بها بعض العلمانيين نظام الحكم الإسلامي!
فالأحكام المذكورة تكفل إيجاد وإمداد الحاكم العادل القوي، الذي يوصل الحقوق إلى أصحابها، ويقود الأمة إلى الكرامة والعز.
ومتى تسرب إلى سدة الحكم ظالم أو مفَرِّط أو مقصر في حقوق رعيته؛ فلا يشرع الخروج عليه والحال هذه؛ لأن مفسدة الخروج أكبر من مفسدة ظلمه أو تفريطه، وهو ما يشهد به تاريخ الأمة الطويل، والأولى للأمة هنا أن تجتهد في الدعاء والسعي لتغيير ما بسببه ابتليت من الأحوال والأوضاع ..
3- السلفيون لا ينكرون العمل السياسي بإطلاق:
كيف والسياسة جزء من الحياة لا تنفك عنها، وفيها من النصوص الشرعية والأحكام الفقهية ما يشكل ثروة إصلاحية هائلة .
وإنما ينكر السلفيون ما أضحى يعرف باللعبة السياسية، وينكرون سياسة هي أقرب إلى الضحك على العقول، وفرض القناعات المنحرفة منها إلى المعنى الشرعي للسياسة؛ فقد أضحى من المعلوم لكل نبيه أن عالم السياسة المعاصر مجال أحكم قبضته أطراف أخطبوط لا يسمح بهذه اللعبة لطفل عاق يريد تغييرها إلى ما يهدد مصالحه! وأن هذا الأخطبوط يعبث بأطرافه في شؤون الدول ويفرض عليها التوجه الذي يريده هو، والذي يخدم مصالحه هو، ثم يذر رماد الديموقراطية والحرية على العيون!
ومن هنا فإن نظرة السلفية إلى السياسة نظرة (استراتيجية) إصلاحية تدعو إلى إصلاح العمل السياسي ببنائه على أحكام الشريعة الإسلامية، وتحريره من السيطرة المغرضة، لتخليص العباد من هيمنة شرذمة من المفسدين في العالم.
وليت شعري كيف يصف العلمانيون حكم الأمير المسلم المؤهل بالشريعة بالثيوقراطية، في حين يصفون الهيمنة الإمبريالية بالديمقراطية المثالية!
فأين هي الديموقراطية في عالم توأد فيه اختيارات ومصالح شعوب بفيتو أمريكي أو فرنسي؟ وأين هي الديموقراطية في تمالئ زعماء الغرب على البوسنة حين اختار رئيسها وشعبها الإسلام؟ وأين هي الديموقراطية حين ينتخب الشعب الفلسطيني حماس فيعاقب بعقوبات قاسية تم تتويجها بمجزرة فظيعة، لا لشيء إلا لأنه اختار ما يعارض الإرادة الأمريكية، … واللائحة تطول.
أين هي الديموقراطية في عالم مُلىء ظلما وجورا؛ يسلط فيه القوي على الضعيف باسم مجلس الأمن وهيئة الأمم.
فالخريطة مرسومة، والنتائج محسومة، والأهداف معلومة.
إن السلفية تأبى أن يُجعل من المسلمين دمى وعرائس تلعب بها أصابع الأعداء، وتحركها في مسرح حياة أضحى النفاق أبرز سماتها ، وتحقيق المصالح الشخصية أهم مقاصدها .
.. وهكذا فإن السلفية ترفض إقحام الدين في مجال يريد مسخه ونسخه؛ فلا صدق ولا أخلاق ولا قيم روحية، وترفض ممارسة تسوي بين الصالح والطالح، وترفض ممارسة تمكن لمن يأكل أموال الناس بالباطل، وترفض (إلها) لا يقبل عملها في مجاله إلا إذا قربت قربان التفريط في مبادئها وقناعاتها…
والخلاصة؛ أن السياسة بمفهومها المعاصر وتطبيقاتها الحديثة تمثل في كثير من جوانبها آلية لخدمة رؤية قوم معينين للكون والحياة، وما ينبغي أن يكون عليه العالم، وهي رؤية متطرفة عدوانية يفرضها أصحابها بعد أن ألبسوها زي الديموقراطية والتعددية، وقد أوهموا أنهم جاءوا بأرقى نظام في الحكم، في حين أنه أرقى وأذكى صورة هيمنة عرفها التاريخ البشري، كيف لا وقد قلبوا الحقائق في فكر وقناعات عدد هائل من المفكرين والكتاب والساسة الذين يرون في ذلك كله نظاما راقيا للحكم!!!
وإن أدري لعل كثيرا منهم يدركون حقيقة الأمر، وقد رضوا أن ينخرطوا في المشروع ما دام يمكنهم من شهوة المال أو نشوة السلطة والجاه.
وأعوذ بالله أن أعمم هذا الحكم، بل أعلم أن في مجال السياسة شرفاء أحرار أصحاب ضمير وغيرة، وحرص على خدمة الوطن بصدق وإخلاص، ومنهم (إسلاميون) رأوا في العمل السياسي مجال إصلاح وتغيير، لكن يبقى هؤلاء شرذمة قليلون تبتلعهم آلة السياسة الموجَّهة.
وإن تعجب بعد ذلك كله فاعجب من انتقاد بعضهم على علماء السلفية كونهم ينهون عموم الناس عن الاشتغال بالسياسة، مع أن هذا مسلك شرعي وحكمة مرعية:
قال الله تعالى: {كونوا ربانيين}
قال ابن عباس: “الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره”.
فالعالم الرباني لا يشغل الناس بعالم السياسة المتموج المورث للحيرة والاضطراب، وإنما يرشدهم إلى العلم الذي يمكنهم من الحكم السليم على الأشياء وإدراك الحقائق كما هي، ويرتقي بهم في سلم المعرفة الصحيحة التي تنمي فيهم الوعي والبصيرة.
وما أبلغ قول العلامة السلفي؛ البشير الإبراهيمي: “العلم ..العلم ..أيها الشباب! لا يلهيكم عنه سمسار أحزاب ينفخ في ميزاب! ولا داعية انتخاب في المجامع صخاب! ولا يلفتنكم عنه معلل بسراب، ولا حاو بجراب، ولا عاو في خراب يأتم بغراب، ولا يفتننكم عنه منزو في خنقة، ولا ملتو في زنقة ..”.
وللحديث بقية …