أهل الدنيا يتقلبون فيها بين خير وشر، ونفع وضر، وليس لهم في أيام الرخاء أنفع من الشكر والثناء، ولا في أيام البلاء أنجع من الصبر والدعاء، ومن جعل الله عمره أطول من عمر محنته، فإنه سيكشفها عنه بتطوله ورأفته، فيصير ما هو فيه من الأذى كما قال من مضى:
الغمراتُ ثم ينجَلينا *** ثمّت يذهَبن ولا يَجينا
فطوبى لمن وفق في الحالتين للقيام بالواجبين.
ومن أقوى ما يفزع إليه من أناخ الدهر بمكروه عليه، وعد الله عز وجل لعباده بالفرج بعد الشدة، وباليسر مع العسر وبعده، كما قال تعالى: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً”.
قال القاسمي رحمه الله: “( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) إشارة إلى أن الذي منحه صلوات الله عليه من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، بعد ضيق الأمر، واستحكام حلقات الكرب في أول السير، كان على ما جرت به سنته تعالى في هذا النوع من الخليقة، وهو أن مع العسر يسرا، ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب، و”ال” في “العسر” للاستغراق ولكنه استغراق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه، فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف، وجهل الصديق، وقوة العدو، فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت، وكانت النفس حريصة على الخروج منها، طالبة لكشف شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل ما من شأنه أن يعد لذلك في معروف العقل، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله، حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى، فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة، وقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر، حتى أوتى من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة، وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصارا طوالا”.
لطيفة: تنكير “يسرا” للتعظيم، والمراد يسر عظيم وهو يسر الدارين.
وفي كلمة “مع” إشارة بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر فهو استعارة، شبه التقارب بالتقارن، فاستعير لفظ “مع” لمعنى “بعد” قوله تعالى: “إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً” تكرير للتأكيد، أو عدة مستأنفة، بأن العسر مشفوع بيسر آخر، كثواب الآخرة وعليه أثر: “لن يغلب عسر يسرين” رواه مالك 2/446، فإن المعرف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول، سواء كان معهودا أو جنسا، وأما المنكر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول”.
وقال تعالى: ” أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” البقرة 259.
قال التنوخي رحمه الله: “فأخبر الله تعالى أن الذي مرَّ على قرية استبعد أن يكشف الله عنها وعن أهلها البلاء، لقوله “يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ” إلى آخر القصة، فلا شدة أشد من الموت والخراب، ولا فرج أفرج من الحياة والعمارة، فأعلمه الله تعالى بما فعله به، أنه لا يجب أن يستبعد فرجا من الله وصنعا، كما عمل به، وأنه يحيي القرية وأهلها كما أحياه، فأراه بذلك آياته ومواقع صنعه” الفرج بعد الشدة للتنوخي 1/61.
عن أبي العابس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال لي: “يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا”، قال الترمذي حديث حسن صحيح ووافقه الألباني في ظلال الجنة رقم 315-316.
قال ابن رجب رحمه الله: “قوله صلى الله عليه وسلم: “وأن الفرج مع الكرب” هذا يشهد له قوله عز وجل: “وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ” الشورى 28.
وعن أبي الدرداء قال: سئل عن هذه الآية “كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ” (الرحمن 29)، فقال: سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “من شَأنِه أن يغفر ذنبا، ويكشف كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين” البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن المعونة من الله عز وجل تأتي العبد على قدر المؤنة، وإن الصبر يأتي على قدر البلاء” حسنه الألباني.
وروى ابن أبي الدنيا قال: “كان تاجر من تجار المدينة يختلف إلى جعفر بن محمد فيخالطه، ويعرفه محسن الحال، فتغيرت حالته، فجعل يشكو ذلك إلى جعفر بن محمد فقال جعفر:
فلا تجزع إذا أعسرت يوما *** فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر *** لعل الله يغني عن قليل
ولا تَظْنُنْ بربك ظن سوء *** فإن الله أولى بالجميل
قال: فخرجت من عنده وأنا أغنى الناس” الفرج بعد الشدة لابن أبي الدنيا 53.
وعن محمد بن الحسين قال: وكان القاسم بن محمد بن جعفر يتمثل كثيرا أبيات:
عسى ما ترى أن لا يدوم وأن ترى *** له فرجا مما ألح به الدهر
عسى فرج يأتي به الله إنه *** له كل يوم في خليقته أمر
إذا لاح عسر فَارْجُ يسرا فإنه قضى الله إن العسر يتبعه يسر
وكتب بكر بن المعتمر إلى أبي العتاهية من السجن، يشكو إليه طول الحبس وشدة الغم فكتب إليه:
هي الأيام والغَيرُ *** وأمر الله يُنتظر
أتيأس أن ترى فرجا *** فأين الله والقدَر
الفرج بعد الشدة لابن أبي الدنيا 48.
عند تناهي الشدة تكون الفرجة
عن عمرو بن أحيحة الأوسي قال: “عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق البلاء يكون الرخاء، ولا أبالي أي أمرين نزل بي، عسر أم يسر، لأن كل واحد منهما يزول بصاحبه” الفرج بعد الشدة للتنوخي 1/179.
قال ابر رجب رحمه الله: “وكم قصَّ سبحانه قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب كإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى من اليم، وإغراق عدوهم، وقصة أيوب ويونس، وقصص محمد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه وإنجائه منهم كقصته في الغار، ويوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب ويوم حنين وغير ذلك” جامع العلوم والحكم 186.
وقال الشافعي رحمه الله:
ولرب نازلة يضيق لها الفتى *** ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج