قراءة نقدية لرؤية الباحث (أبو اللوز) حول الحركات السلفية في المغرب (الحلقة السادسة) السلفية والدولة؛ أية علاقة؟ (ويتضمن نقضا لافتراءات العلماني المتطرف سعيد لكحل) ج 2 حمّاد القباج

استقينا في الحلقة الماضية –من تاريخ المغرب في القرون الثلاثة الأخيرة- ما يدل على جودة ومتانة العلاقة بين علماء السلفية وأعلى سلطة سياسية في البلاد؛ ورأينا كيف تتابع ملوك الدولة العلوية على إقامة صرح الإصلاح الديني على لبنات المنهاج السلفي الذي يضمن استمرارية الإسلام الصحيح كما فهم أحكامه ومقاصده الرعيل الأول، وهو التوجه الإصلاحي المستمد من الإسلام كما عرفه المغاربة على أيدي الفاتحين، بعيدا عن فرية الوهابية المزعومة، وتتمة للموضوع أقول:

العلاقة الوطيدة بين محمد الخامس والعلامة السلفي محمد بن العربي:
فقد شهد محمد لمعمري –وكان أقرب شخص إلى نفس محمد الخامس-؛ أن الملك كان يقرب شيخ الإسلام محمد بن العربي وينهل من معارفه ويستفيد من توجيهاته الإصلاحية النيرة؛ ومن ذلك: ما كان يتلقاه في الدروس السلطانية التي شهدت صراعا حادا بينه وبين الموالين للحماية، وكان شيخ الإسلام يقاوم فيها خطط الاحتلال وفكر الشعوذة والقبورية الذي جر المغرب إلى أوحال التخلف والانحطاط؛ “وقد أذكت تلك الدروس في نفس محمد الخامس سلامة التوجه والبعد بالدين عن الخرافة والبدع”(1) .
يقول عبد الكريم الفاسي: “أصبح شيخ الإسلام (محمد بن العربي) أول من يرجع إليه محمد الخامس ويستنير بنصحه في أكثر المواقف شدة، وقد سجل التاريخ أن شيخ الإسلام كان الرائد الصادق الملهم الذي أصلح الله به المغرب الأقصى ملكا وشعبا مدة حياته، ولقد استطاع بصدقه وأمانته وقناعته أن يبعد سياسة محمد الخامس عن كل ما يحدث الفجوة بينه وبين شعبه، … وقد سجل التاريخ في حقه من المكارم ما تتعشق النفوس سماعه” .(2)
قلت: وقد درّس ابن العربي بالقرويين منذ سنة 1330هـ كما عين قاضيا بفاس سنة 1333هـ، ثم رئيسا لمجلس الاستئناف الشرعي الأعلى بالرباط سنة 1346 هـ، ثم وزيرا للعدل عام 1359 هـ.
وهذا الائتمان دليل على الثقة الكاملة بعلمه وسلامة منهاجه وصفائه؛ فكيف يزعم (لكحل) بأن السلفية خطر على وحدة الشعب واستقرار الوطن؟!

السلفية والوطنية الصادقة:
وقد سجل التاريخ للعلامة ابن العربي شرف إذكاء روح جهاد المحتل الفرنسي، وكان من السباقين إلى تأسيس حركة المقاومة:
قال محمد الفاسي: “إن تاريخ الحركة الوطنيةـ بل الفكرة الوطنية نفسهاـ يرجع الفضل في بثها ونشرها إلى شيخ الإسلام ابن العربي ومن كان معه من بعض العلماء السلفيين …، وقد لاقت هذه الحركة مقاومة شديدة من طرف القبوريين، وكان أقطاب السياسة الأهلية من رجال الحماية يساندون الجامدين ويضطهدون بشتى الوسائل دعاة الإصلاح”.(3 )
بين الدكتور الهلالي والعلامة ابن العربي:
إن شيخ الإسلام محمد بن العربي الذي أشرنا إلى منزلته العلمية والوطنية وخدمته الجليلة للمصالح العليا للدولة؛ -وهي الإسلام والاستقلال والوحدة-، هو شيخ الدكتور محمد تقي الدين الهلالي الذي يعد حامل لواء السلفية في المغرب المعاصر، ومواقف هذا الأخير الدعوية والوطنية -أيضا- أكثر من أن تحصر، ومن ذلك أنه شن حملة إعلامية قوية ضد فرنسا من إذاعة برلين وغيرها، كما انتقد بقوة القبورية والفكر الخرافي المزري بالمغرب.
ومن الحقائق التي سجلها التاريخ؛ أنه كان تيجانيا ثم ترك التيجانية بسبب محمد بن العربي.
قال الهلالي(4 ) بعد مقدمة بين فيها كرم ضيافة الشيخ محمد بن العربي العلوي له، وأنه لما سمعه وجلساءه يطعنون في الطرق الصوفية غضب وهمّ بالخروج؛ قال: “ولم تخف حالي على الشيخ، فقال لي: أراك منقبضا! فما سبب انقباضك؟ فقلت: سببه أنكم انتقلتم من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطعن في الطريقة التيجانية، وأنا تيجاني لا يجوز لي أن أجلس في مجلس أسمع فيه الطعن في شيخي وطريقته، فقال لي: “لا بأس عليك، أنا أيضا كنت تيجانيا فخرجت من الطريقة التيجانية لما ظهر لي بطلانها؛ فإن كنت تريد أن تتمسك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك علي ألا تسمع بعد الآن في مجلسي انتقادا لها أو طعنا فيها، وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلم إلى المناظرة؛ فإن ظهرت عليّ رجعتُ إلى الطريقة، وإن ظهرتُ عليك خرجتَ منها كما فعلت أنا، فأخذتني النخوة ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل فقلت: قبلت المناظرة”.
وساق المناظرة بطولها، ثم قال: “فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس، كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد العشاء بكثير، وحينئذ أيقنت أنني كنت على ضلال”اهـ.
بين الشيخ الهلالي والدكتور المغراوي:
كما يعد الدكتور محمد بن عبد الرحمن المغراوي امتدادا لدعوة شيخه الهلالي، وهذا الأخير هو الذي زكاه وأرسله للدراسة بالمدينة المنورة.
وقد دعا إلى السلفية طيلة أربعة عقود قضاها أستاذا جامعيا ورئيسا لجمعية الدعوة، التي كانت لها علاقات جيدة -إداريا وقانونيا- مع وزارة الأوقاف والمجلس العلمي، وكان بين الجمعية وبين المؤسستين الرسميتين أعمال علمية ودعوية مشتركة كثيرة.
يقول الدكتور المغراوي في بيان شيء من ذلك:
“-طلب مني المجلس العلمي بمراكش برئاسة الشيخ الفاروق الرحالي رحمه الله أن ألقي دروساً في رمضان بمسجد ابن يوسف العتيق، وألقيت دروسا في مسند الإمام أحمد، ودروسا في تمهيد ابن عبد البر بمجموعة من المساجد، كل ذلك بترخيص من وزارة الأوقاف يوم كان الناظر هو الأستاذ محمد الراوندي .
– استدعاني وزير الأوقاف الدكتور عبد الكبير المدغري لحضور جامعة الصحوة الإسلامية برعاية الملك، والتي كانت تنعقد بمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء .
– رُخَص دور القرآن بمراكش بتوقيع المجلس العلمي وناظر الأوقاف الذي يمثل الوزارة، وممثل الشؤون العامة بالولاية الأستاذ المنصوري.
– البرنامج العلمي الذي تسير عليه دور القرآن هو من توقيع رئيس المجلس العلمي الأسبق الأستاذ محمد البراوي وهو عضو المجلس العلمي الأعلى الحالي.
ـ دعيت من طرف المجلس العلمي غير ما مرة لكثير من المناسبات.
– طلب مني الناظر السابق الأستاذ مولاي عبد العزيز تعيين مجموعة كبيرة من طلبة دار القرآن للإمامة في تراويح رمضان، وقد استمر هذا العمل إلى يومنا هذا، فبلغ العدد في السنة الماضية أكثر من مائة مسجد في مدينة مراكش وحدها، وقد فرح بهم عموم الناس واستحسنوا الصلاة خلفهم، وأقبلوا عليهم… “اهـ .(5)
وفي هذه الحقائق إبراز لأهمية المسلك الحكيم الذي انتهجته الدولة، والقائم على التعاون بين المؤسسات الرسمية والجمعيات الخاصة، وإشراك جميع المؤهلين في عملية الإصلاح.
وأجزم -كباحث متتبع- أن هذا النوع من الإشراك والإدماج لعب دورا مهما في عدم التمكين لفكر الإرهاب وممارسات التخريب في بلادنا، وأنه أسهم في تضييق دائرة ذلك التوجه المدمر، وهو مكسب يخشى فقده في ظل سياسة الإقصاء والتهميش.
.. وفي آخر استجواب صحافي مع الدكتور المغراوي (6) أكد موقفه الإيجابي من الدولة قائلا: “لم يسبق لي أنني اصطدمت مع الدولة في شيء …، وأريد أن تبقى علاقتي مع الدولة مسالمة مستقرة إلى أن ألقى الله تعالى”.
إن المتأمل في الحقائق المتقدمة في المقالتين الأخيرتين يجزم -إن أنصف- ببطلان الطرح الذي يختزل العلاقة بين السلفية والدولة في توظيف هذه الأخيرة للأولى لضرب توجه إسلامي معين، وأشد منه بطلانا ذاك الذي يتهم السلفية بتهديد أمن واستقرار وازدهار الدولة؛ إما بالزعم أنها تشكل بيئة لنمو الفكر الإرهابي، وإما بادعاء أنها تحارب مشروع تحديث وتطوير الدولة!

وللحديث بقية …

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير (ج8/ص378).

[2] التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير (ج8/ص378).

 ([3]) مجلة دعوة الحق العدد 8 سنة 1959م (ص.19)

([4]) الهدية الهادية إلى الفرقة التجانية (ص 17-20)

[5] الدكتور محمد المغراوي؛ التبيان لما جاء في البيان، أسبوعية السبيل / العدد 51 / بتاريخ: 5 ربيع الثاني 1430 هـ.

[6] نشر على صفحات أسبوعية الحياة الجديدة / العدد 55 / بتاريخ: 17-23 أبريل 2009.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *