الزواج ما بين القوامة والشراكة حامد مسوحلي الإدريسي

تتجدد الثقافات وتتغير، كما الحياة… وتبقى وحدها قيم الإسلام هي القيم الخالدة العظيمة الكفيلة بإسعاد البشر، لأنها وضعت من لدن حكيم خبير، ولأنها أصليّة بالمفهوم التجاري، أي أن واضعها هو صانع الإنسان، فكانت الأليق بما صنع، وهذا ندركه في الصناعات البشرية، إذ نحرص على اقتناء القطع من مصنعها الأصلي كي نضمن سلامة المنتج، وهذا في حق الخالق والمخلوق أولى، فما وضع الخالق وما شرع وما صنع، هو الأحق والأصلح (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).
نقف هنا وقفة إجلال مع هذا الخالق العظيم، لنتقدم بين يديه بالتسابيح اللائقة، والتحيات الطيبة، ونذكره سبحانه بأنه إلهنا العظيم وربنا الكريم (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ)، فلنشكره قليلا بهذه الأفئدة والأسماع والأبصار على ما خلق وسوى، وقدر فهدى، ولنتوقف قليلا عند إنعامه وإحسانه العظيم، ونردد: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
ومما نذكره به ونشكره عليه، هذا الكون العظيم المتماسك، الذي تنظر فيه فما ترى من فطور، ثم ترجع البصر كرات ومرات لعلك ترى نقصا أو تفاوتا، فلا ترى إلا إتقانا وإحسانا، فانظر كذلك في شريعته المحكمة المتناسقة كتناسق الكون، هل ترى من فطور؟ (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) هذه الشريعة التي تشبه السماء بمصابيحها الجميلة، التي هي في الوقت ذاته (رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) فبأنوار الشريعة المتلألئة في سماء العارفين، ترجم شياطين الأهواء والأباطيل، فترتد عن سماء الشريعة خاسئة (فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا).
إن الذي شرع لنا هذه الشريعة الغراء، جعل كتابه العظيم نبراسا للأسرة، ودستورا ساميا لهذه العلاقة البشرية العظيمة، التي حفظها الشرع بتشريعات وحدَّها بحدود وربطها بعهود ورتبها بترتيبات تعرض القرآن الكريم لأدق تفاصيلها في مواضع كثيرة، فقال وهو يوصينا بأبنائنا (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)؛ فتكفل النص القرآني الكريم بتبيين أدق تفاصيل هذه القسمة الربانية لكل درهم من دراهم هذا الميت، لتدرك أنه: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ثم يأخذك العجب حين ترافقك سورة النساء إلى أدق تفاصيل الخلافات الزوجية وسبل علاجها، وتضع لك الخطوات الدقيقة في فن إدارة الأسرة مبينة حقوق الزوجة والأبناء، وتفتح أمامك باب التعدد بما طاب من النساء، وترسم أمامك قيم الأسرة المسلمة بأدق التفاصيل وأجمل العبارات، فتحس وأنت تقرأ قوله تعالى في نهاية السورة (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بأنك خرجت لتوك من معرض متكامل للأسرة يضم كل ما تحتاج إليه من أنظمة وأخلاقيات، وتسمع في التوصية الختامية لهذا المعرض أن الله قد بين لنا كي لا نضل، فإياكم أن تضلوا وتطلبوا الهدى في غير هذا البيان، لأن الأسرة هي ركن المجتمع الذي إذا هوى ضل المجتمع كله وهوي.
وأريد أن أتوقف في هذا المكتوب عند قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)، كي نتشبع بهذا المعنى القرآني المحكم، الذي يرتب الأسرة بترتيب قويم، على سنة الله عز وجل في كل مخلوقاته وتشريعاته، أنها تمتاز بالعدل والقسطاس المستقيم، ونتساءل هنا عن مدلول القوامة، وعن المعاني الجديدة التي أصبحت تزاحم هذا المفهوم أو تفرغه من محتواه، مثل المعنى الدخيل، الذي تم تصديره إلينا في علبة فكرية كتب عليها “شريكة العمر”.
عندما قرأت في شعر العرب ودواوينهم الأدبية، وعشت بخيالي معهم تحت الخيام في تلك المجتمعات البدوية التي كانت المتلقي لهذا الوحي الإلهي، والتي كانت معانيها وثقافتها هي اللغة التي استخدمت في هذا الخطاب القرآني الخالد، والذي لا يفهمه حق الفهم من لم يعش معهم في خيامهم، ولم يحبب النوق ولم يتعشق الخيل، عندما قرأت ذلك الشعر وعشت بخيالي في ذلك المجتمع، لم أسمع يوما عن شريكة الحياة، لذلك كانت تستفزني هذه الكلمة، وأنظر إليها بتفحص كأنها شخص غريب قدم إلى بادية العرب بزي غريب من بلاد بعيدة.
فهل هذه الشريكة هي زوجة فقط، أم أنها زوجة لها مقام معين، وحقوق معينة، ودور معين، ونصيب في الشركة محدد؟
وهل هذه الكلمة مجرد تعبير مجازي يدل على الحب والاحترام والتقدير الذي هو من صميم المعاشرة الحسنة؟ أم أن تحت الكلمة ما تحتها، ووراء الأكمة ما وراءها؟
خذ رحالك معي إلى حيث ولد هذا التعبير، فهو ولد في بلاد باردة لا تشرق فيها شمس الصحراء، ولا تهب فيها رياحها، هناك، حيث المرأة شريكة حقيقية في الأسرة، وحيث الحقوق والصلاحيات والقرارات تتساوى بين الرجل والمرأة إن لم تكن المرأة تملك أكثر مما يملك الرجل، بل هي شريكة في كل شيء معنوي؛ وفي كل شيء مادي مما يمتلكه الرجل في حياته وعمله، حتى إذا حل الطلاق، وحانت ساعة الفراق، قسم القاضي هذه الشركة بين هذين الشريكين مناصفة، وحازت المرأة نصف ممتلكات زوجها، حتى إن كانت هي المطالبة بالطلاق، لأن الشراكة تقضي بأنه لا فضل لأحد الشريكين على الآخر، وليس لأحدهما الحق في فض هذه الشراكة دون الآخر، كما هو الحال عندنا نحن، حيث جعل الطلاق لمن بيده القوامة وهذا ما أشار إليه قوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الطلاق لمن أمسك بالساق) (صحيح سنن ابن ماجه).
ومن عجيب القضايا المتكررة في محاكمهم، وجود نساء يمتهنّ حرفة الطلاق، حيث يقعن على الأثرياء، وينصبن لهن شراك الحب وكمين الزواج، فما أن تمر سنة أو سنتان، حتى ترفع عليه قضية طلاق، وتحوز نصف ممتلكاته، وقد تجني بعملتي طلاق ما تجنيه ممثلة أو راقصة في سنوات؛ ولا تستنكر هذا الأمر، فمتى ما ابتعد الإنسان عن الشريعة أتى بالعجائب، فالقانون الإلهي هو القانون الوحيد الذي يمكن أن يضبط الناس ويحد من طغيانهم الأثيم.
إذن، الشراكة المقصودة بهذه الكلمة في بلاد المنشأ، هي شراكة حقيقية مقصودة، يترتب عليها الكثير من القوانين والإجراءات في جميع مستويات الأسرة، لذلك فإن مبدأ القوامة مرفوض أتم الرفض في ثقافتهم، ولا يمكن أن تقبل المرأة هناك، برجل تستأذنه إن أرادت زيارة أهلها، ويتحكم في لبسها وإرادتها، يأمرها فتطيع، وينهاها فتنتهي، فهذا أمر تثور عليه كل (شريكة عمر).
نتكلم دائما في حربنا ضد المصطلحات الدخيلة عن قوله تعالى: (لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا) ونؤكد على أن المصطلح والكلمة قد تكون مصدر إزعاج لمعاني إسلامية، بحيث تطبع في ذهن المخاطب بها، معاني دخيلة تبني في نفسه تصورا وتعطي للمجتمع قيمة جديدة، أو تهدم قيمة قديمة، فالمصطلحات التي نستخدمها لها دور كبير في بناء ثقافتنا ونظرتنا للأشياء.
إذا كان هذا صحيحا، وكانت للمصطلحات آثار نفسية على المجتمعات، وإذا كان هذا التحذير الوارد في الآية أمرا جسيما-وهو كذلك دون شك- فإن استخدامنا لمصطلح (شريكة العمر) قد امتد إلى ثقافتنا الأسرية، وقد أدى أو سيؤدي في نظري إلى ما يلي:
1- ضعف معنى القوامة الزوجية واهتزازه، وذلك ببناء أسرة قائمة على قطبين شريكين في المكانة والقرار، وهذا من أخطر ما يمكن أن يكون، لأن الأسرة مؤسسة لها موارد ومنتجات وموظفين، وهي بذلك كجميع المؤسسات بحاجة إلى هرمية إدارية لئلا تفسد ككل أمر في هذه الحياة (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)، ولذا فإن انتظام الأسرة بتراتب القوامة، هو الذي يضمن لها السلامة، وإلا أصبحت الزوجة تلوم الزوج على اتخاذ قرارات لم يرجع فيها إليها، ولو رجع إليها للامته إن لم يأخذ بقرارها.
2- تمرير مفهوم الشراكة كي تصل إلى القوانين الوضعية التي تبنى بنودها على ما يتقرر في النفوس والأذهان من قيم وعادات، وهذه القيم التي بنيت بهذه المفاهيم هي مسوغات القوانين، وهي التي تجعلها مقبولة لدى السواد الأعظم من الناس، وعند ذلك تصبح هذه القوانين ملزمة لكل المجتمع، سواء من رضي بها ومن لم يرض.
3- تعقيد الحياة الزوجية، حيث تصبح أيسر القرارات التي يرغب الزوج باتخاذها؛ نظرا إما لظروفه وإما للضغوط النفسية التي يمر بها؛ تصبح من أشق الأمور، لاحتياجه إلى إقناع شريكة حياته، وليس الإنسان مستعدا للإقناع والنقاش في كل حين، وليست طاقة الرجل المستهلكة بالعمل والمشاكل هي طاقة المرأة التي تنتظره طوال اليوم، فتأتي لتطالبه بحقها في الاستشارة، ولتلومه على اتخاذه قرارا لم يراجعها فيه، وبعد الصراع الطويل تخلص القيادة في الأسرة لأحد الطرفين ولا بد، فإما أن تنكسر المرأة، وإما أن ينزوي الرجل، ويترك لها الصولة والجولة، ويأخذ في مناحي الحياة، وقد رأينا كثيرا من هؤلاء ممن ترك القياد لزوجته، تدير الأسرة كما تشاء، واستطاعت هذه الشريكة أن تستبد بكل شيء في الأسرة، ولا تترك لشريكها إلا السرير لينام، والطاولة ليأكل.
4- تشتّت الأسرة بسبب ضياع القوامة، فالرجل في الإسلام هو المسؤول عن الأسرة، ومن كمال خلقه أن يستشير أهله في الأمور المتعلقة بمصالح هذه الأسرة التي هي من مسؤوليتهما معا، وليس معنى المسؤولية متعارضا مع معنى القوامة، فالشخص قد يكون مسؤولا في الشركة لكنه تابع لمديرها منقاد للخطة المرسومة من قبله، وإن كان هو المسؤول الفعلي والحقيقي عن كل شيء، من هنا يأتي مفهوم الشراكة ليقلب هذا النظام، ويجعلهما في مكان واحد، وينقل الاستشارة من خلق نبيل إلى واجب حتمي، يسنّي للمرأة أن تتمرد على كل قرار لم تكن مشاركة فيه، أو كان رأي الرجل فيه مخالفا لرأيها ومشورتها، وبهذا يظهر للأسرة قطبان لا يمكن أن يكونا متوافقين دائما، كما هي الفطرة التي خلق الله الناس عليها، لكلٍّ رأي ولكل فهم ولكل وجهة نظر.
من هنا فإن مطالبتنا بزواج ينبني على تفاهم بين شخصين يعتبر مطالبة بأمر نادر الحصول، فلا بد من انقياد أحدهما للآخر، ولا بد من مشاورة بعضها البعض على سبيل التعاون والمحبة، لا على سبيل الوجوب والإلزام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *