شاعت بين الأمازيغ المعاصرين، بدع سيئة، وحوادث مستهجنة، استمرؤوها من فرط رغبتهم في نحت عوالم أمازيغية مفترضة، تستحيل فيها الأفكار والأنظار، ومعها الأشياء إلى ظاهرة بربرية صِرفة، تلغي كل كيان “غريب” وافد على الذات، ولو مراغمة وقسرا.
ذلك أنك إذا بادرت أحدهم بتحية الإسلام، {تحية الملائكة والنبيئين والمؤمنين}، فاجأك برد نشاز، غير معهود لك، ولا مألوف عندك: أَزُولْ فْلاَّكْ، فيقفّ شعرك استغرابا لعجيب فعله، وانزعاجا لشاذ صنيعه.
فتحاول برفق أن تُفهمه أن الرد الطبيعي والشرعي هو: وعليكم السلام، وهو الذي درج عليه المسلمون جميعا، بكل ألسنتهم وأجناسهم وألوانهم، وعدّوه من شعائر الإسلام الظاهرة، وشعاراته الخاصة، التي انماز بها عن النحل والملل والمذاهب الأخرى.
وقد تُجْهِد نفسك في بسط وشرح ما تضمنه هذا التركيب، من اسم الله المشعر بالجلال والهيبة، وما ينطوي عليه من معان سامية، وأبعاد دلالية، يدرك المتأمل في عمقها أنها اختصرت أهم مقاصد وغايات الإسلام، وهي السلم والأمن والاستقرار.
وتستمر في محاولتك لإقناع محاورك بالاستدلال التاريخي والجغرافي، فتُجلّي له حقائق الزمان والمكان، وهي أن المغاربة جميعا عربيهم وأمازيغيهم، الذين انتظموا في سلك هذا الدين، منذ الفتح الأعظم إلى اليوم، عظّموا شعائر الله وحرماته، وتنافسوا في السبق إلى إيقاع مقتضيات الشريعة، وتنجيز أوامرها، وتفاضلوا في الأعين بحسب ذلك و بِعِيَاره، فنظروا بعين الإكبار والتقدير، لكل من ظهر منه الالتزام بنهج الشرع، والسير في ركابه، ورمقوا بعين الزراية والصَّغار، كل من تنكب عن أوامره، أو حاد عن جادته، ولا يبعد أن يسِموه بالمبتدع في الدين، والمنفلت من عقاله، والمتطاول على حدوده…
ولم يحرفوا -على طول العهد- شعيرة السلام، ولا رضوا بغيرها بديلا، ولا التمسوا لها معادلا، سواء في البِدَار أو الرّدّ، والدليل على ذلك هو الواقع نفسه، فحيثما وليت وجهك من بلاد المغرب، بادية أو حاضرة، جبلا أو سهلا، شمالا أو جنوبا، إلا وجدتَ الناس كلهم يلهجون بتحية الإسلام، كما علمّها صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأتباعه، لا تكاد تجد في ذلك اختلافا بين عربي وأمازيغي، إلا فيما اقتضته قواعد العادة البشرية، في تطويع الكلام وإجرائه على اللكنة السائدة، التي اعتادتها الألسن في كل منطقة ومكان، فتجد بعضها تعتوره بعض المدود العريضة، وبعضها تغلب عليه حركات السكون، وبعضها يغلب عليه التفخيم، وأخرى الترقيق وهكذا…
ورغم كل تلك الخلافات اللّسْنية في طريقة النطق بالتحية، فإنهم مُصمّمون على إفشائها كما ورد بها الشرع الحنيف، بتركيب عربي لا يخلو من مقصد معتبر، أو نكتة بالغة، دون أن يُفهَم من ذلك تعصب، أو قومية، أو عنصرية، مما ينبؤ بسلامة صدورهم، ونقاء سرائرهم، من الغل والحقد والمُوجِدة، بل يصرخ بصلابة تشبتهم بشعائر الإسلام الظاهرة، وقوة تمسكهم بها، إذا أخبر الشرع بوجوبها أو مندوبتيها…
قد تحاول كل ذلك غيرة على الدين، وحرصا على صفاء وطهارة أحكامه من الزوائد والمحدثات، فيصدمك لحينك بنوع من التنمّر والتعالم، أننا متفقون على تلكم المعاني المسطّرة، ومُجْمِعون على جملة المقاصد المقررة، لا ننكرها ولا نجادل فيها، لكن ليس ضربة لازب أن تلقى بألفاظ وتراكيب عربية، وإنما تؤدى في قوالب لغوية أخرى تبعاً لنفس المتكلم، فالأمازيغي يلقي التحية باللفظ الأمازيغي، والفارسي باللفظ الفارسي، والتركي باللفظ التركي، والفرنسي باللفظ الفرنسي؛ وهكذا…
فقَصْر التحية على الأداء العربي دون غيره، هو تخصيص بلا مُخصّص، و تحكُّم بغير دليل، و إلزام للناس بما لم يلزمهم به الشرع.
وعليه لا يجب أن تعطى اللغة العربية أكثرَ من حجمها، ولا تستحق من العناية آكَدَ من غيرها، إلى درجة إضفاء هالة من القداسة والتبجيل عليها، على حساب لغات أخرى هي أيضا خلقها الله، وجعلها من آيات قدرته، ودلائل عظمته، فأنتم بتعريب كل شيء تُقَوّضون -من حيث لا تشعرون- أهم مقومات الإسلام وهي: الشمولية والاستيعاب، وتكرسون مبدأ مركزية العرب، وهامشية الأجناس الأخرى، بمعنى أنكم تستحيلون إلى دعاة العروبة لا إلى دعاة الإسلام.
إنكم بإصراركم على أن تؤدى المعاني الشرعية في الأبنية العربية دون سواها، تُسلطون معاول هدم وردم على الثقافات والحضارات غير العربية، والإسلام إنما جاء ليسع جميع الثقافات والحضارات في كنفه، بكل تناقضاتها الاجتماعية، وتركيباتها الإثنية والعرقية، ويتخوّل أصولها بالتصحيح، ومسارها بالتوجيه، لا إلى وأدها وقتلها.
فتبقى مُسمَّرا في مكانك، مشدوها في فكرك، لا تدري من أين أُتيت، و لا كيف تناسلت عليك هذه الأفكار من سؤال بَدهي، كنت تحسب أن مخاطَبك سيؤوب إلى رشده، ويعود إلى عقله، فورما تُذكِّره بسلطان الشرع، ودليل التاريخ.