الدخول إلى شعب أبي طالب د. حسن الأمراني

(1)

في العام الأول من تاريخ العشق القدسيِّ
أضأتُ قناديلي
ونشرتُ مواويلي
وتملّكني الحبّ الغالبْ
فذرعت الأرضَ أطارد خيطاً من أمل هاربْ
وفزعتُ، فطمأنني صوتٌ من أعماق الجبّ
لا تخش الليل ولا البيداءَ فآخرَ هذا الدربْ
أيكة أمن وأطايبْ
وحبيبٌ يفـــرشُ مبتهجاً للقصواء الهُــدْبْ
فنقشت على شرفات القلبْ
بالأخضر إيقاع قصيدي
وهتفت: لقد أبصرتكِ يا سنبلةً طلعتْ كالفجر بكنعانْ
أبصرتكِ من خلف القضبانْ
مقبلةً في شهقةِ زنبقةٍ
يختلط صداها بمزامير الحكمة تملأ صوتي
أبصرتك في النارنجة تطلع من بيتي
أبصرتك في زهر الرمّان
يتفيأ أكناف القدس وبيسانْ
أبصرتك في نيسانْ
في شمس البتراء الناعمةِ
وفي نجمٍ يعزف ليل الغربةِ عند مَعَانْ
في ترنيمِ يمامة عشقٍ تصدح في تطوانْ
في ليل يتألق في وهرانْ
ويرنّقُ من تسبيحة إبراهيم القادم من ركّان
إبراهيم الآن
يُسْكِنُ صوتي المفجوعَ غرابًا يبحث في الأرضِ
ويطعمني ثمرَ الأحزانْ
يتدثَّـرُ موكبه بدم الشهداءِِ
ويلقي فوق صقيعي بُردة إيمانْ
يا إبراهيم
وهرانُ الآنْ
لا تتألم من وقع (الطاعون) ولا من طعم (الغثيان)
فحوافر (كامي) انتحرتْ
وبواتر صاحبه اندثرتْ
لكنّ سماءً تمطر في وهرانْ
تشكو من جور الخِلانْ
فجميلة بوحيردْ
ما زالت، كالأمس، تصاول ليل القضبانْ
وتمدّ بصائرها من خلف الأسلاك المغروسة في لبنان
فترى شعب العزة وحده
يشحذ سيفاًغادر غمده
من بعد حصارٍ باركهُ نسل بني عبس وبني ذبيانْ
قلت لشمس البتراء:هنا لا عينَ ترى إلا ظلّ كواكبْ
قالت: ومكوكبها؟
فعلمتُ بأني مازلت غريرا في درب العشقِ،
أجيراً في قافلة الشهداء، وإنْ تيَّمني السفَـرُ الناصبْ

(2)

في العام السادس من تاريخ العشق الدمويِّ
وجأتُ وريدي
حين رأيت بكلّ مريدِ
مشروعَ شهيدِ
فاستوقفني النجم الثاقبْ:
أيّ الطرقات تريدُ؟
رأيت على الرمضاءْ
جبلاً تحت الصخر ترواده الدنيا فيردّدُ في سمع الصحراءْ
(أحدٌ..أحدٌ..)
وطنتُ النفسَ على الصبرِ، وآخيت اللأواءْ
ما عدتُ وحيدا..
أنا في كوكبةٍ من إخواني الفقراءْ
حين هتفنا: (البيْتُ لنا)
دمدمت الرّيحُ المخبوءةُ في الأعماقِ،
تجمَّعت الأحزابُ، وألجأَنا الأعداءُ إلى شِـعْبِ أبي طالبْ
ها نحن تظللنا أفْـياءُ الغربة في أحراش الشِّـعبْ
وتحاصرنا الدنيا، لا شرقَ يواسي الغرباء ولا غربْ
قد حاصرنا قبل البـُعَـداءِ ذوو القربى
وسيوف الإخوة تقْـتلنا قبل سيوف الأعداءْ
لا معبرَ يُــفتح، لا ميناءْ
لا حبّةُ قمحٍ تأتينا.. لا قطرةُ ماءْ
لا النيل يُـــفيض علينا من بركات الأرضِ
ولا نهر الأردنّ يسيلْ
والزاد قليلْ
لا زاد سوى ما خبأه من ميراث في ليل الغربة هذا القلبْ
الزاد قليلْ
وأحابيشُ ابن سلولْ
تتناسل كالطاعون وكالجربِ
من شرم الشيخ إلى العقبة
وقريظة تسخر من (وادي عربة)
الصبية في سغبِ
والنسوة في نصبِ
عانينا القحطَ..
أكلنا الخمطَ..
وكان النفطُ الطالع من أرض القوم النُّجبِ
يحْرقنا في صمتٍ
ويضيء ديار المغتصبِ
ويضيء سلاح المغتصبِ
من ظاهَـرَ جيشَ قُـريظةَ ضدّ أخ وأب؟
من ناصره؟
من آزره؟
أو لستم عربا؟
إي والله، لأنتم عربٌ عربٌ، لكن لا كالعربِ
هل أنتم في زمن الردة هذا من نسل أبي بكــرٍ؟
أم أنّـكمُ من نسلِ أبي جهل وأبي لهبِ؟
قلْ لنواطير السوء:
لقد بشمتْ من أعناب القدس ورام الله ثعالبها
والأمَّة في كربِ
هل مِـنْ غضبِ؟

(3)
من أقصى الأرض تجيء امرأةٌ
تدعى (راشيل كوري)
لتحرّرَ أمريكا من عقدة خوف مشتبكه
وتقارع بطش مجنَّدة تدعى (راشيل شوارزنبورغ)، كالطعنة، مرتبكه
جاءت من ظلمات بلونيا كي تسكن غصبا عني داري
راشيل كوري بالصدر العاري
تحمي أطفال فلسطين من اللهب الفوار
تحمي داري
دمُ (راشيل كوري) منتصراً
يهزم جرافة (راشيل شوارزنبرغ)
ويعيد لأمريكا صولتها المغتصبـةْ
فمتى تتحرَّك في وجه الغازي النصبُ؟
ومتى يعرف طُــهْــرَ الغضبِ المشتعلِ العربُ؟
قل لنواطير السوء المختبئـةْ
في جبة ذلّتها المهترئةْ
قامة (راشيل كوري) أمضى من أسيافكم الصدئةْ
هامتها أبقى من زيف عروش مغتصبه

(4)
أنا رغم العطش المحتدّْ
لن أشربَ إلا من حبر دواتي
أنا رغم الظلم الممتدّْ
لن أتسول بين موائدكم نصرا
لن أخذل أنصاري المنشورة أعلامهُـمُ
من أقصى الأرض إلى أقصاها
رغم جحيمٍ حاصرَ في بلدي كلّ حصاةِ
لن أدعو، بعد الله، سوى شعبي
كي ينشر عزمُ سواعده
في بحر الصبر الصاخب مرساتي
أنا لا أملك إلا كفيّ الضارعتين إلى المولى
وسأبني بهما السدّْ
بهما عزمي يشتدّْ
سيكون عدوّي، رغم فيالقه وبوراقه وصواعقه،
سيكون عدوّي جَـزْراً، وأكون أنا المدّْ

(5)
شعبٌ أعزلْ
يمشي، ويقول لقاتله: لك هذا الحاضرُ
تشربُ فيه مرارة كابوسك، والغدُ لي
فأنا المستقبلْ
أغلقْسبلي
بالحقد وبالمدفعْ
أنا لن أركعْ
لك لنْ أركعْ
سأقاتلُ بالقسّام وبالمغزلْ
شعبٌ أعزلْ
كشعاع الشمس يسابق غايته للظلّ
المصحف في يمناه
وبيسراه مشعلْ

(6)
شعب يحترق الآن وحيداً
وكنور الله الغامر يخترق الآفاقَ وحيداً
ويواجه قاتله الهمجيّ وحيداً
ويقول له: ارحلْ أنت، فلن أرحلْ
أرسل بقنابلك الفوسفورية، لن أرحلْ
أجلب بالخيل وبالرجل، ودمّرْ
مدرسةً، مئذنةَ باذخةً، مستشفى
مالي غيرَ الوطن الشامخِ منفى
ارحلْ أنت، فإنّي لن أرحل
قد يرحل هذا البحرُ، وقد ينقل هذا الجبل الراسخ،
لكني لن أرحلْ
قد تجعل من وطني سجنا
سيكون السجن هو الأبهى
ويكون الوطنُ الوطنَ الأجملْ
سيقول الشجرُ الأخضرُ، والحجرُ الأحمرُ:
خلفي أفعى، فاقتلها يا عبد الله!
ستردّد كل مدارسنا: لا للمحتلّ
وستهتف كل كنائسنا: لا للمحتلّ
وستصرخ كل مساجدنا:لا، لن نرحلْ
فيسوعُ هنا كان يصلَّي في المحرابْ
ومحمدٌ الأوابْ
قنديلا كان بأركانِ الإسراءْ
ولذلك كل جريحٍ سيغني للفجر المقبلْ
ويدوي كل شهيد في وجه المحتلّ:
اقصفْ..واعصفْ..
سلسلْ..اقتلْ…
سنعلم كلّ جنينٍ كيف يقاومْ
كي تُـرفعَ أعلامُ العزة في غزّة هاشمْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *