شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

……………………………                 ……………………….. خـلـل

لأجل ما حازوا من التحقيق          فـي عـلمهـم بشـدة التـصـديــق

لكن حمل العلـم قد لا يكفـي          إذ لم يصر في حقهم كالوصف

فـربـمــا دعـتـهــم دواعــي           مـن جـهــة النـفـوس والطـبـاع

تلجئ فـيهـم إلـى الافـتـقــار          لزائـد عـلـى المقـوي الجــاري

من طلب المحاسن العـاديـة          ولائــق الـمــراتــب الـســنـيــة

وذاك أيضا بدليل التجـربـة          لكنها………………………….

«خلل» أي وهن، وإنما هم كذلك «لأجل ما حازوا» وأدركوا «من التحقيق» أي اليقين «في علمهم» ذلك التحقيق الذي حصل لهم «بشدة التصديق» وقوته التي تثمرها البراهين القطعية المقتضية لها.

«لكن» لم يصر العلم كالوصف الثابت لهم كما عليه أهل المرتبة الثالثة الآتي ذكرهم «حمل العلم» لهم على العمل وحده «قد لا يكفي» بل قد يحتاج إلى مقو زائد في ذلك «إذ لم يصر» العلم «في حقهم» في حالهم الثابت لهم «كالوصف» الثابت.

ولذلك «فربما دعتهم» وأغرتهم «دواعي» جمع داعية من الدعاء بمعنى الطلب، والمقصود بالدواعي البواعث التي تكون «من جهة النفوس» بما انطوت عليه من رغبات وشهوات، «و» من جهة «الطباع» جمع طبع -وقد يراد بالطباع: الطبع مفردا كالنجار- وهو ما طبع عليه الإنسان في مأكله ومشربه وسهولة أخلاقه وحزونتها وعسرها ويسرها، وشدته ورخاوته وبخله وسخائه.

«تلجئ» تضطر «فيهم» بعضا منهم «إلى الافتقار» والاحتياج «لـ» باعث خارجي «زائد» متسع «على المقوي» المذكور «الجاري» الموجود في المرتبة الأولى.

فالباعث الزائد في هذه المرتبة الثانية يتسع فلا يقتصر على مجرد الحدود والتعزيرات، بل ثم أمور أخر يتسع «من طلب المحاسن» جمع حسن على غير قياس طلب إدراكها وتحصيلها «العادية» أي التي تستحسن عادة كاجتناب ما يستقذر في مجاري العادات، والتحلي بما يستطاب التحلي به من أوصاف «و» ما هو «لائق» بأهل «المراتب السنية» الرفيعة، كالستر، والعفة، والحلم.

«وذاك» الذي ذكر في هذا الشأن من أن أهل هذه الرتبة في العلم قد يحتاجون في الإقدام على العمل إلى ما ذكر، فعلمهم قد لا يكون مضطلعا وحده بحملهم على العمل، هو «أيضا» مثل الأول في أنه ثابت «بدليل التجربة» ومقتضى الواقع، «لكنها» أي هذه التجربة

………………………….          …… أخفـى بهذي المرتـبـة

ثالثـة لمن حـصـول علمـه            قد صار وصفا ثابتا كفهمـه

وراســخ الـعـلـم لـهـــؤلاء            ليس يخليـهـم مـع الأهــواء

فـيـرجـعــون دائـمـا إلـيــه           رجوعهـم مـا جبلـوا علـيـه

وهـذه الـرتـبــة مسـتـقـلــة           بمـقـتضـى قـواطــع الأدلـة

وأهلها في العلم راسخونـا            وهم به إذ ذاكـا محفوظونـا

إذ هم من الشهود بالتوحيد            والمقتضـى عدالـة الشهـود

ولا يـقـال إن أهـل العـلــم            قد يقعون في ارتكـاب الإثم

«أخفى بهذي المرتبة»، ولذلك فإدراكها يحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية، وذوي الأخذ في الاتصافات السلوكية.

ثم ذكر الرتبة الثالثة فقال: «ثالثة» بالنكرة كما في قوله ثانية، ووجه هذه كوجه تلك في الإعراب والإيضاح، وقد تقدم ذكره -على ما يظهر- وهذه الرتبة هي رتبة خالصة «لمن حصول علمه» وقيامه به «قد صار وصفا ثابتا» له، وكان علمه بمثابة الأمور البديهية «كفهمه» الذي يحصل له في المعقولات الضرورية الأول، ككون الواحد نصف الاثنين، والكل أكبر من جزئه.

«وراسخ العلم» يعني العلم الراسخ، فقوله: راسخ العلم هو من باب إضافة الصفة للموصوف الذي ثبت «لهؤلاء ليس يخليهم» أي يتركهم «مع الأهواء» ورغبات النفوس ورعوناتها، إذا تبين لهم الحق.

«فيرجعون دائما إليه» إلى حكمه ومقتضاه وإرشاده رجوعا مثل «رجوعهم» إلى «ما جبلوا عليه» من الأمور الفطرية ودواعيهم البشرية وأوصافهم الخلقية.

«وهذه الرتبة مستقلة» بحمل أهلها على العمل وحدها، فهي لا يحتاج معها إلى مقو زائد في ذلك؛ وهذا الأمر ثابت «بمقتضى» وحكم «قواطع الأدلة» يعني الأدلة القاطعة، فقواطع الأدلة من باب إضافة الصفة للموصوف.

«وأهلها» أي هذه المرتبة «في العلم راسخون» ثابتون «و» لذلك «هم به» أي بالعلم «إذ ذاك» يعني إذ كانوا فيه راسخين «محفوظون» من المخالفة لأوامر الشارع ونواهيه.

«إذ هم» إذ تعليلية أي لأجل كونهم «من الشهود بالتوحيد» أي بتوحيده سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو}، «والمقتضى» والحكم الثابت هو «عدالة الشهود» فلا يصف الشارع بالشهادة إلا من كان عدلا.

«ولا يقال» يعني لا يصح أن يقال «إن أهل العلم» غير محفوظين من المخالفة، وذلك لأنهم «قد يقعون في ارتكاب الإثم» إذ المعصومون هم الأنبياء فقط.

ولا يكون العلـم حافظـا لهــم                   فـقـد تـســاووا بالـذيـن قبلـهــم

إذ قـد يـجــاب أن ذاك إنـمــا                  يكـون ممـن للـرسـوخ عـدمــا

أو قـد يكـون فلتـة أو غفـلــة                   ومثـل هـذا لا ينـافــي أصـلــه

والعـلـم أمـر بـاطـن معـنــاه          يــرجــع للخشـيــة مـقـتـضــاه

وقيل نور في القلوب هـادي                   من مطلع التشريع ذو استمـداد

«و» بذلك «لا يكون العلم حافظا لهم» من ذلك، فلو كان العلم موجبا لحفظهم من الوقوع في المعاصي لكان كذلك لأهل الرتبتين الأولى والثانية حافظا «فقد تساووا بالذين قبلهم» من أهل الرتبتين المذكورتين في الإتصاف بالعلم.

«إذ قد يجاب» عن هذا الاعتراض بأمور، أحدها «أن ذاك» الذي ذكر من أن العالم يقع في المعصية «إنما يكون» على وجه الحصر صادرا «ممن للرسوخ» في العلم «عدما» فلم يكن من أهل هذه الرتبة، فلم يصر العلم وصفا أو كالوصف مع عده من أهلها، وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه، أو اعتقاد غيره فيه.

ثم ذكر الأمر الثاني، فقال: «أو قد يكون» وقع منه ذلك الارتكاب للإثم «فلتة» ناشئة عن الغفلة التي لا ينجو منها البشر، فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم؛ «أو غفلة» هكذا في النسخ التي بين أيدينا، وما يوافق الأصل هو أن يقال: عن غفلة، فيكون معناه: فلتة ناشئة عن غفلة كما تقدم ذكره، وهذا هو الذي في الأصل (الموافقات)؛ «ومثل هذا» إن ورد «لا ينافي» أي لا يخالف «أصله» الذي خرج عن حكمه ومقتضاه، وعليه فلا يرجع عليه بالبطلان.

فصل

«والعلم» ليس أمرا ظاهرا، وإنما هو «أمر باطن معناه» وحقيقته «يرجع للخشية مقتضاه» أي مدلوله والمراد به كما في حديث ابن مسعود، وهو معنى قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.

«وقيل» هو «نور» يقذفه الله «في القلوب» قال مالك: ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه نور يقذفه الله في القلوب. وهو أيضا «هادي» مرشد إلى الحق والهدى. قال مالك -أيضا-: الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل ولكن عليه علامة ظاهرة وهي التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود. وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة، وهذا النور «من مطلع» -بضم الميم وسكون الطاء وكسر اللام- أي رافع ومظهر «التشريع» أي الشريعة طالعة تنير الآفاق، هو «ذو استمداد» أي صاحب أخذ للمدد، والإعانة على ثباته على هذه الصفة التي هي الحفظ من المخالفة.

يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *