شذرات ربيعية “9” ربيع السملالي

* حين يحكمنا كتاب الله تعودُ الأطيارُ إلى أعشاشها موفورة راضية.. وتلتئم جراح المكلومين بعد طول عناء وكمد خلّفهما حزن أو مرض أو فراق حبيب.. تشعّ الابتسامة وضّاءة على وجوه أسيفة أنهكها التّفكيرُ في مستقبل لم ينبثق بعد من شرنقة العدم.. واجترار مآسي الماضي السّحيق.. تنشر الشّمسُ سلطانها دافئة على أمّنا الأرض الرّازحة تحت برودة الأيّام وصقيع اللّيالي.. يتسلّل شعاعُها الإلهي الرّحيم إلى بيوت أقعد أهلها التّشاؤمُ وسوء الظّن بالله وفقدان الثّقة.. تتسرّب أخبارُ النّصر والتّمكين فيفرح المؤمنون بوعد الله الخالد.. تنطلق زغاريد النّساء مدويّة في فضاء فسيح تجمّله زرقة السّماء وزقزقة العصافير ونسمات الأمل.. ترحل غربان الكآبة عن دنيا الفرح مخلّفة وراءها نعيقًا وبؤسا وعذابًا في قلوب الحيارى من الكافرين والمنافقين.. الأشجار الباسقة تدفع عن نفسها غُبار السّنين وتشيع في الحياة اخضرارا وروائحَ تعطّر أفئدة الصّبايا الحالمات بغد أفضل… نظرات الرّضا من عيون العجائز وكبار السّن من الرّجال تطيّب خواطرَ شباب يفور قوّة وحماسا كانت مكسورة مخذولة لا تعرف معنًى للتفاؤل.. مدينة فاضلة لا تقع عينك فيها على منكر ولا جهر بفسق.. تنسحب المرأة الكاسية العارية إلى خدرها باحثة عن ثوب يستر جسدها المتهالك المتمرّد على الله ويحجبها عن عيون الذّئاب الجائعة…!

* حينَ أحسَسْتُ بموهبة الكتابة تضطربُ في أعماقي ودودتُها تنغُلُ في دَمي وأنا دون العشرين من عمري، جعلتُ أقرأ كلَّ كتابٍ يقعُ تحتَ يدي يومئذ بحثًا عن طريقة تخلّصُني من العِيّ والحصر وركاكة الأسلوب وفقر المعلومات اللّغوية بنحوها وصرفها وإملائها.. فكانَ أوّل كاتب تأثّرتُ به وقرأتُ كلَّ أعماله الأديب البارع مصطفى لُطفي المنفلوطي.. بل حفظتُ كثيرًا من مقطوعاته التي كانت تذهبُ بلبّي وتستقرّ في أعماقي لا تَرِيم.. ثمّ قرأت كلّ أعمال الكاتب النّصراني جُبران خليل جُبران وأعجبتُ بها إعجابًا منقطع النّظير وقد كادت أن تفتكَ بي أفكاره وتجعلني من الكافرين، بل من الملحدين.. لولا الله الذي أنقذني بكتاب صغير في حجمه كبير في مضمونه عنوانه (الأصول الثّلاثة) لشيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله.. اشتريته من سوق الكُتبيين بدرهمين.. فكان نقطة التّحول بالنّسبة لي، دفعني دفعًا رفيقًا للبحث عن العقيدة وعن التّوحيد الخالي من الشّوائب وأنا حينها أضلّ من حمار أهلي في هذه العلوم الشّرعية الزّكية التي سيمنّ الله عليّ بتعلّمها أو بتعلّم الكثير منها في وقت وجيز.. وقد كانت لي رغبة جامحة تناطح السّحاب..!

* جلستُ إلى نفسي هذه الأيّام أحادثها وتحادثني في لون من ألوان الكتابة النّثرية، وصارحتها أنّني بدأتُ أميلُ إلى التّفاؤل والأمل والحب والخير والجمال أكثر من أيّ وقت مضى.. وإنّي عازم على ترك الحزن والكآبة والألم التي خلّفتها في أعماقي كتب بعض الرّومانسيين الحالمين العائشين في دنيا الخيال… فقلمي ينبغي أن يكون مفتاحَ خير مِغلاقَ شرّ يلوّن الحياة بألوان الطّيف مهما كانت قتامتها ومهما كان حالكًا ظلامُها، لا أريد لهذا القلم أن يظلّ صعلوكًا ابنَ جارية يدفعه الهمّ وتساوره الحيرة ويضطرب لأتفه الأسباب.. سنوات عمري لا تكلّ ولا تملّ وأيامي لا تريد أن تستريح ! أليس من الخير أن أترك أثرًا جميلا بعد موتي يفتح شهية الإقبال على الحياة والجدّ والاجتهاد لأجيال تبحث عن آثارنا ما وسعها البحث، وتقرأ حروفنا بشغف وحبّ ما وسعتهم القراءة والحب والشّغف!.. باختصار أريد يا نفسي أن أكون طفلا في الكتابة وكأنّ كلّ شيء على ما يرام ! فانظري ماذا ترين؟!
فقالت لي بعدما أشاحت عنّي بوجهها نحو الأفق المزدان بقمر وضّاء، لا أصدّقك فكلّ يوم أنت في شأن ولا تستقرّ على حال.. ويا ليتك تكون كما ذكرت ويكون قلمك كما وصفت!..
فتبسّمت ضاحكًا من قولها ووعدتها خيرًا ودعوتُ دعواتٍ صادقة بالتوفيق والسّداد لي ولها!

*السعادة الحقيقية باختصار توجد في ابتسامة طفل بريء القسمات.. في تغريدة عصفور حطّه القدرُ فوق شجرة مورقة تطلّ على نافذة غرفتك، في رسالة من صديق يخبرك فيها أنّه يحبّك في الله.. في الجلوس إلى كتاب يعلّمك لغة القرآن، في دعوة صادقة من قلب بينك وبينه من البعد كما بين السّماء ذات البروج والأرض ذات المروج.. في هدية متواضعة تقدّمها لزوجك مكافأة لها على ما تقوم به من جهاد في سبيل راحتك وراحة أبنائك.. في النّظر كلّ صباح إلى وجه أمّك الصّبوح.. في الذّهاب إلى زيارة مريض أنهكه التّعب.. في موهبة الكتابة التي تصبو إليها روحك كلّما حلّقت نوارس الحزن فوق شواطئ خواطرك المكسورة… السعادة هي أن يرزقك الله محبّة سيد قطب فتجمع كلّ كتبه لتسهر معها الشهور والليالي ذوات العدد !

* قالتْ لي أنت جريء جدّا في ما تكتبه.. ألا تخاف انصراف النّاس عنكَ؟
فقلتُ لها دون أن أرفعَ عينيّ عن الكتاب الذي أطالعه : ما أشعرُ به أقوله، وما أؤمن به أعلنُه على الملأ، وأعوذ بالله أن أنافق القارئ مستجديًا رضاه.. لتكثير السّواد. واعلمي -نفع الله بك- أنّ الكاتب الذي يكون همّه رضا النّاس لن يعمّر أدبه طويلا، سيموتُ بموت اللّحظة التي كتب فيها.. وما كان لله دام واتّصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل…
فقالت مبتسمةً: لله أنتَ!.. رغم نعومة اسمك ورقّة حرفك تأبى إلا أن تكون جافّا في معاملتك وكثير من كتاباتك..
دمتِ بألق!

*أشرَقتْ شمسُ يومٍ جديد.. لكن ابتسامتك يا أسامة أبَتْ أن تُشرِق.. بل ضباب هذا المرض الدّاكن حال بينها وبين إشراقها.. هذا الإشراق الذي يجعل يومي مترعًا بالخير والحبّ والجمال.. صار معتّما وكأنّني في ظلمة حالكة السّواد.. كلّ مصابيح أيّامي انطفأت بانطفاء وجهك الطّفولي الحبيب.. فأرجوك عُد إليّ قبلَ أن يتوقّف هذا القلب عن الخفقان…!
أبوك وحبيبك!

* كان لونُ وجهه أصفرَ وعيناه ذابلتين وعلى شفتيه ابتسامة باهتة لا تغريك بإطالة النّظر إليه.. حينَ رآني وقد انبثقتُ من باب الغرفة التي ينام فيها بالمستشفى اندفعت من فمه كلمة (أبي.. أبي..) وكأنّ فرَجًا نزل من السّماء على رجل في صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا شجر.. عانقته قبّلته وشممت رائحته وكأنّي أراه لأوّل مرّة بعد طول غياب.. يرفع عينيه إلى وجهي الحزين بين الفينة والأخرى ويمسك يدي بل يتشبّث بها وكأنّه يقول لي ابقَ معنا.. ولا ترحل.. أشار إليّ أنّه يريد أن يخرج أخذته إلى دهليز المشفى الطّويل.. تخلّص من يدي وانطلق راكضا يبحث عن حرّيته التي قيّدها هذا المرض المفاجئ.. جلست أنظر إليه يشعر بالتّعب فيأتي إلى حضني يجلس مطمئنا.. يأخذ هاتفي يعبث به باحثًا عن القطّ الشّقي الذي يردد صوته كببغاء.. تأتي الممرضة تعلن عن انتهاء وقت الزّيارة.. أقبّله بعنف أودّعه وهو يبكي يصرخ محتجّا.. أنطلق مسرعًا إلى الخارج منتظرا نتائج التّحليلات…!
شفاك الله حبيبي أسامة!

* نسمة صباحية باردة أطوي عليها جوانحي..
مصدرها ابتسامتك المتعبة وكلماتك العذبة التي تنساب في أعماقي كالماء النّمير في يوم حرّ… ملامحك المتأصّلة
في أعماقي لا تفارقني ليل نهار.. ممتلئ أنا بك لحدّ التّرف رزقني الله حبّك من بين آلاف البشر.. ليس لأنّك فلذّة كبدي.. فلي عبد الرحمن وهند -حفظكم الله جميعا-.. لكن أنتَ أنتَ فيك شيء يميّزك.. شيء أستشعره في قلبي يشبه السعادة والفرح والحبور.. لا لا بل أكثر من ذلك بكثير.. أنت حبّ يمشي على أرضية قلبي بخطًى وئيدة مطمئنة راضية كلّ الرّضا.. باختصار حبيبي الغالي أنت تجري في دمي جريًا لا أستطيع وصفه لعيّي وحصري وركاكة حرفي.. لكن تأكّد أنّ حبّي لك لو وُزّع على أهل العداوة والبغضاء لوسعهم ولحوّل عداءَهم محبّة ووِدادًا…!
أتمّ الله شفاءك حبيبي أسامة.. فبيتنا خالي الجوانبِ بلقعُ بدونك.. فعدْ سريعًا ولا تخف فإنّكَ بأعيننا!
*هذا المساءُ -بحمد الله- أذِنَتْ لنا الدّكتورة بإخراج ابني أسامة من المستشفى بعدما طمأنتْ قلوبًا كادت تبلغُ الحناجرَ من الغمّ والحزن والكَمَد.. التّحاليل والفحوصات لم تكن سيّئة جدّا.. بعد شرب الدّواء بإذن الله وإعادة فحص آخر يوم الجمعة المقبل يكون على ما يُرام.. فها هو طائري الحبيب الآن يغرّد مع أخته وأخيه وأبناء أختي فرحًا بحريّته… استرجع بعضًا من عافيته فاسترجع قلبي بعضًا من هدوئه.. فاللهَ أسألُ أن يتمّ شفاءَه وعافيته!
والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصّالحات!

*أخبرتني أمُّ هند أنّ الممرضةَ حين كانت تغرزُ الإبرةَ في بعض المناطق من جسمِ أسامة رأتْ دموعي تنحدرُ على وجنتيَّ، وأبكي بحرقة لبكاء ابني وألمه.. قالت لي: الجنّة تحتَ أقدامِ الأمّهات فعلا يا ابنتي.. اصبري واحتسبي!
فقلتُ لها: فكيفَ لو رأتكِ فجرَ ذلكَ اليوم حينَ اشتدَّ به المرضُ وقد اصفرَّ لونُه، وأطرافُه ترتعدُ، وعيناه فيهما علامةُ الموت والرّحيل.. وقد كادت قدماكِ تخذلانك من شدّة تأثّرك بهذا المشهد الرّهيب الذي جعل قلبك يدقّ بعنف حتّى خشيتُ عليك كخشيتي عليه وأنا بينكما موزّع بين الدّموع الصّامتة والصّدمة.. وإنّي لأتذكّر كيفَ نسيتِ ولم يعد لكِ عقل يقودك إلى خزانة ملابسه لتستري عُريّه ونسيتِ كلّ شيء أمام ضباب هذا الخطب الذي حلَّ بابننا الحبيب!

* وزّعْ ابتساماتك يا أسامة على قلوبنا التي أفجعها مرضك الذي ألزمك الفراش وسربلك بالألم… ارفع صراخك ما وسعك الصّراخ.. وافعل في الكتب والهواتف والحواسيب ما شئت وشاءت لك الطّفولة فلن تجد لك معاتبًا.. فأنت أميرنا وطاعتنا لك واجبة في المنشط والمكره ولو كنتَ عبدًا حبشيًا.. لا يجوز الخروج على محبتك مهما فعلتَ.. وقد اتّفق لك من الإعجاب والمحبة في قلوب محبّيك ما أبهرني.. واجتمع فيك من القَبول ما تفرّق في غيرك.. كلّ من يراك يحبّك حبّا خالصا سواءً في عالم الواقع أو الافتراض.. والشّكر كلّ الشّكر لله الذي شفاك وأعادك إلينا سالمًا.

* إذا رأيتَ الرّجلَ يُثني على رواية (الخُبز الحافي) للهالك محمد شُكري، فاعلم أنّ ذائقته شربت من أوحال المستنقعات حتّى ثملت، ولم يعد فيها مكانٌ للأدب الرّفيع الذي يسمو بالنّفوس ويرتقي بها نحو الخلود!

* الوطن.. السّفر.. الاغتراب.. القلق… قلّة الزّاد.. خِذلان الرّفاق!
كلّها أشياء تجعل قلمك يبدع ما وسعه الإبداع.. ومن رَحِم الشّقاء تولدُ قافية الشّاعر.. وخواطر النّاثر!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *