عذرا.. لقد تكلس الحبر في جعبة أقلام تجار الأوهام عبد المغيث موحد

عندما كان الناس ينصبون أكفهم متضرعين لربهم، وعندما كان رئيس الحكومة المغربية الإسلامي في مؤخرة الصفوف يصلي على حصير قد نال من جنب من هو أشرف منا ومنه ومن الناس أجمعين، مخالفا لبروتوكولات الوهم الحكومي السابق؛ وهْم البطر وظلم الغمط.
عندما كانت الأفئدة المفطورة على التوحيد منيبة إلى ربها مخبتة إلى عالم الغيب ومنزل الغيث تتوسل بسنة الاستسقاء رجاء في أن لا يؤاخذنا الحليم بسفاهة السفهاء منا، وأن يرسل علينا السماء مدرارا، فيسقي عباده وبهيمته وينشر رحمته ولا نكون بعدها من القانطين، كان هناك فئام من الناس؛ أولئك الذين يحبون أن يسارعوا إلى شراء فائض القمح من مستعمر الأمس؛ أولئك الذين يحبون الجفاف ليكتتبوا عند موائد غاصب الأمس بمسؤولية إطعام الشعب من الجوع وتأمينه من الخوف؛ أولئك الذين باعوا سمكنا بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين؛ كان هؤلاء الذين ذكرنا فيضا من غيض خصالهم يجتمعون المرة تلو الأخرى؛ فيبلغ صراخهم زوايا وأركان هياكل ملتقياتهم؛ يأخذ أحدهم الكلمة فيتعقبه آخرون بكلمات ليست كدعاء الاستسقاء ولا الحاجة ولا طلب المعافاة والشفاء.
إنهم كانوا يتغرضون من جمعهم ويرومون من صراخهم ترجمة خوفهم وخشيتهم على ضياع ما بنوا صرحه آنفا من مهرجانات وبرامج ومسابقات تلفزيونية قوامها الغناء والرقص والهرج والمرج.
لقد قرأت في جريدة “الأحداث” كيف أن هؤلاء الناس كانوا يسارعون في برمجة الدعوات الاستقطابية لنجوم الأغنية العالمية، فكان فريق يقترح فيحاء، والثاني يصر على قدوم هيفاء، والآخر يبكي خوفا من أن تضيع منه لعبة شاكيرا الجلحاء، وقد كان يتخلل هذا الصراخ بين الفينة والأخرى التشديد على فرض مهرجان موازين وتيمتار وكناوة الصويرة والقائمة طويلة وتطول على البرامج الثقافية لحكومة  العدالة والتنمية.
ثم كان النقاش ينتقل إلى محاور أخرى تعنى بفتح جبهة عاتية تستشرف مصير المكتسبات السالفة في مجالات السياحة وحقوق النساء والحريات الفردية، بل كل المكاسب الديمقراطية العصرية والحداثية التي تم انتزاعها في السابق رغم ظروف الاستبداد والتسلط على حد تعبير الرويبضة أحمد عصيد في عموده المعنون من جريدة “جمع حدث” بالكلام غير المباح.
ذلك الرويبضة الذي عمد في مقاله “الثورة التي لا تنصف الإنسان لا تستحق هذا الاسم”، بتشبيه صعود الإسلامين إلى سدة الحكم في كل من مصر وتونس والمغرب بما وقع بالذات في أوربا عند صعود النازية والفاشية حيث سطرت أهداف لا إنسانية تهمها الهيمنة والتحكم، وتتناسى بترك وذهول وضعية الإنسان وكرامته التي ينبغي بعقيدة عصيد أن تعلو على كل شيء!!
ونحن نعرف ما وراء أكمة استعمال لفظة الإنسان ومصطلح الإنسانية، إن الإنسان عند عصيد مستثنى منه المسلم الموحد الذي عاش الإقصاء في زوايا عريضة من مناكب الأرض، ولا أدل على قولنا أن هذا الأمازيغي المتعصب لنعرة كسيلة وخرافة شيشونغ لم يكلف نفسه يوما من أيام دهره شرف الكتابة على المقهورين تحت الآلة الحضارية القاتلة، والدبابة المعربدة، والطائرات النفاثة القاذفة للجحيم والهلاك، تلك الآلة القاتلة في سر والقاهرة في علانية والتي ما فتئ هذا الرجل يفتخر بما وصلت إليه حضارة الغرب من انفتاح وتقدم وعصرنة في مجالات حقوق الإنسان والمرأة والسجين والحيوان.
بينما عين المنصف ترى عين الحضارة محل اعتزاز الرجل وافتخاره هي نفسها التي تدك الأرض على الإنسان، وليس إنسان عصيد ولا إنسان المواثيق الدولية بل المسلم والمسلمة وكل ما يدخل في فضاء ملكيتهما وخصوصيتهما؛ عقارا كان أم حيوانا؛ سجينا كان أو حرا مطاردا؛ سفحا كان أم جبلا أشم.
إن سطور القوم ومحبورهم الحداثي لا يمكن أن نقرأ حصيلته عند كل وقفة إيمانية إلا بحقيقة واحدة مفادها أن التاريخ اليوم وقبله بقليل يخوض عملية صرف صحي تذهب بالشوائب والدواخل إلى زبالة الجفاء، لقد انتهى دور الرجل العلماني ليس هنا عندنا فقط فهذا أولى ومسلم به، ولكنه انتهى في مهد المنشأ حيث ولدت فكرة المادة والحداثة وحكم الأغلبية وتقرير الإنسان الغربي لمصيره بعيدا عن رقابة الشرع وسلطان الإرادة الكونية.
لقد انتهى ذلك الزمن الذي تغطرس فيه العلماني واللبرالي واليساري في محيط دروب جغرافية العروبة الإسلامية؛ يوم كانت الشعارات ترفع في واضحة النهار في أطول شارع وأعرض فضاء؛ شعارات ناضحة بالحرية الفردية وإقصاء ضبط المقدس؛ شعارات أن للإنسان في دائرة إنسانيته أن يفعل ما يشاء متى شاء وكيف شاء، وبانتهاء هذا الزمن أو على الصحيح ظهور بوادر انتهائه ستُحال بالاضطرار الزمني رخويات نعرات العرق وشنشنات الحداثة والحريات الفردية إلى جبانة العدم؛ بل وسيتكلس الحبر في جعبة أقلام الأقزام من أهل البهتان والسفاهة؛ ويساق الكل ذليلا صاغرا إلى لحد النسيان.
وفي خضم هذا السوق وذلك الصرف التاريخي ما على الذين يرتابون في البديل الشرعي ويشككون في يقينية جدوى الإسلام في باب التنمية والإنعاش وخلق فرص المعافاة إلا أن تجود علينا قرائحهم بعلل ريبتهم ومعلولات شكوكهم وأسباب توعدهم إسلامنا في باب الحكامة والحاكمية بالفشل والإفشال؛ ثم بعد هذا وبالمقابل عليهم أن يأتوننا بالبرهان الحسي على جدوى برامجهم التي أعملت فينا معاول الهدم وأحالتنا على نقاهة الندم، بينما كانوا هم وحدهم وفي مناخ إترافهم وطيلة فترة تسلطهم يرون فيما نراه هلاكا وإفسادا للحرث والنسل مدعاة طمأنينة وعناوين نجاح وتقدم ورقي مكتوبة بخطوط عريضة يحسبها البعيد ماء عذبا زلالا ويتذوقها الكادح القريب حنظلا وسرابا وإضلالا.
وإننا وكما كنا دوما وأبدا نقف وقفة سمع وطاعة مع الدليل في باب الاستدلال؛ فكذلك لا يمكن إلا أن نحترم  البرهان وننزل على حكمه وذلك متى ما نال منزلة الصواب والصدق ونصاب الإقناع.
وأنى لقوم ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؛ قوم ديدنهم بطر الحق وغمط الخلق قد ألفت نفوسهم اتباع الهوى والانسراب مع مجاري كلَب التخرصات والظنون، أن يأتوا بالبرهان الصادق والمقنع، وهذه شهادة ربنا فيهم ومن أصدق من الله قيلا: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون}.
وفي ذيل هذه السطور نحب أن نستفسر عصيد وأمثاله عن ماهية هذا الفكر الإنساني البديل الذي يريد أن يضع ديننا المنزل برمته على كفة ميزان تطفيفه؛ ثم يخلص إلى أن يقول في وزنه ما يقول؛ وينعت بضاعته الشريفة بنعوت النقص وتطفيف البخس الذي عنوانه فصل الدين عن الشأن العام وحصره ومحاصرته بفكر كنسي في أديرة ضيقة بدعوى فائقية الإنسانية والعقلانية ومخافة تكرار التسلط الثيوقراطي رغم أننا نقر ونؤمن بعقيدة وحكم ذهن جازم؛ أن فلسفة الدين الذي يطارد العقل والعقل الذي يخاصم الدين ويسعى لنسف مبادئه هي أمراض فكرية نبتت في محيط منشئ غربي وغريب عن بيئة إسلام الدين والدولة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *