النقاش الذي استحوذ على العقول والأفكار والكتابات والتحليلات والمساجلات والمنتديات والمتعلق بقضية الخمر والذي توج باتخاذ عمدة فاس لمجموعة من القرارات التنظيمية التي تهم هذا المنتوج الذي فرق الناس إلى فسطاطين وكشف العورات وفضح السوءات وانبرى للدفاع كعادتهم دعاة الحداثة والّلبرلة والعلمانية واللادينية، عن الموبقات وشرعنة الفساد الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والأمني والهجوم معتبرين أن شرب الخمر يندرج ضمن الحريات الفردية “المقدسة”، وآخرون جعلوا من الحكمة الدفاع عن مطلب منع بيع الخمور للمسلمين وغيرهم باعتبار الخمر تتحمل أخطر الأوزار ويترتب عليها أغلب الفساد، أفليست هي أم الخبائث؟
شباط أعلنها حربا على الخمور هكذا تبدو الصور وهكذا سوّقها الإعلام وهكذا تلقتها كثير من العقول فهل الأمر له نهاية؟ وكيف هي؟ نعم له نهاية وبلا شك، لكن السؤال ستجيب عنه الأيام وهل يفعلها شباط أم لا؟ ولما؟
لا يمكن الجواب، مادامت السياسة تبيح كل شيء، لكن المهم من كل هذه الجلبة أن كثيرا من المتخفين ظهروا، وكثيرا من الظاهرين صعّدوا، وكأن الأمر يتعلق بما يهدد الأمن القومي أو كارثة ستبيد المجتمع المغربي ولن يكون له حاضر ولا مستقبل إلا الخمر وأخواتها، وأخذت القوم حمية على مشروبهم المفضل وثارت ثائرتهم وصار الأمر عندهم أكثر أهمية من وحدتنا الترابية التي ربما يتكلمون عنها ببرودة دم وتواضع في الطرح وربما جعلوا من المرتزقة أبطالا للنضال.
لقد أصبح لافتا للانتباه والذي ينبغي أن يعيه كل مغربي غيور على دينه وشرفه ووطنه أن هذه الطغمة التي تتصدر النقاش اليوم ليس لها شغل إلا الهدم والتخريب والتصدي لكل دعوة بناء صادقة؛ هذا ما يفسره -وبوضوح لا يحتاج إلى إيضاح- كل القضايا التي يتبناها بنو علمان دعاة الحداثة وأنصار الليبرالية كالدفاع عن الشذوذ والحق في اختيار الشريك والدعارة كوظيفة ينبغي تسجيلها في البطاقة الوطنية، ومناصرتهم للعلاقات غير الشرعية خارج إطار الزواج حتى وإن كانت خيانة، ومنافحتهم عن الأمهات العازبات ليس كواقع ينبغي أن ينتهي بالقضاء على أسبابه، ولكن قبوله بما هو عليه وحمايته من ألسنة السوء كما يزعمون، وفرضه على العقول فرضا لا يستقيم ومعتقدات القوم التي تزعم أن الحرية هي أن يعتقد الإنسان ما شاء ويتصرف كيف يشاء وينتقد متى شاء دون وصاية، واليوم ينتصرون للخمر والمخمرين ضد الشرع والقانون….
عدم الوصاية على الغير من أصول الحداثة وأخواتها وهي منطلقهم بالأساس في الدفاع عن الخمر والسكارى والحانات والملاهي، بل وكل الموبقات، حيث يقولون: دعوا الناس فلهم عقول هي التي تختار لهم وليس أنتم، ويقصدون من يدعون إلى حماية القيم الإسلامية؟ لكن حين يتقدم مخلص للدين وللوطن لانتقاد السلوكات غير الأخلاقية يوجهون إليه مدافعهم ويرمونه بالأسلحة الثقيلة والفتاكة، والتهم جاهزة بلا شك تنتظر فقط ضحيتها على جانب الطريق، وعندها تنتهي كل المفاهيم المزيفة من قبيل أن الإنسان سيد قراره، وله الحرية وكل الحرية وليس أمامه أية قيود في تبني التصور والتصرف الذي يريد، فهو إله نفسه ليس له شريك في إرادته -تعالى الله عن الهراء علوا كبيرا-. أنت إنسان كامل الإرادة إذا أردت أن تعيث في الأرض فسادا، ليس عليك وصاية، لكن إذا تجرأت على الانتقاد يمارسون عليك الوصاية ويحددون لك مجال الانتقاد فتصبح ناقص الأهلية قاصرا تستحق الحجر، رجعيا ليس لك بعد نظر وما إلى ذلك، فيا للمفارقة.
لقد أصبح مثقفو الخواء ومفكرو الهراء وكتاب النعيق والمواء يمارسون الوصاية والإرهاب اللذين يحاربونهما تحت مسمى التصدي للفكر الظلامي و(الإسلاموي)… لكنهم في الحقيقة إنما يحاربون شرع الله والمقصود بردودهم وخرجاتهم هو الله لكنهم لا يجرؤون على التصريح بذلك، والحمد لله أن جعل في الناس بقية ممن لا تنطلي عليهم مثل هذه الأساليب الخسيسة؛ فالخمر التي أقاموا من أجلها الدنيا ولم يقعدوها بعد من حرمها؟ الإسلاميون -حسب قولهم- أم الله في كتابه العظيم وسنة نبيه الكريم؟ ومن يفرض الوصاية على الناس العلماء والدعاة أم الشرع الحنيف؟ فإذا كانوا ضد هذه الوصاية فهم ضد الشرع، إذًا فالخمر لم يحرمها (الإسلاميون) كما يزعم العلمانيون، لدواعي سياسية، بل هجوم العلمانيين على الإسلام وشريعته بدعوى محاربة توظيف الدين لأغراض سياسية هو استغلال لما يتيحه دنس السياسة من مناورة لهدم مطالب الخصم مهما كانت قداستها أو نبلها، فما ينقص العلمانيين دوما هو النزاهة والصراحة بينما يبقى انتفاشهم وجعجعتهم مجرد استقواء رعديد وشجاعة جبان على مقدسات أفقدها تخاذل أبنائها بعض سلطتها، فجرّأ عليها السفهاء.
تمت أمر لابد أن ننتبه إليه وهو مكسب لدعاة الحداثة في حد ذاته ولكنهم لا يشعرون؛ وذلك أن السجال اليوم لم يعد متعلقا بالخمر كمحرم أصلا بيعه واستهلاكه سواء للمسلم ولغير المسلم، والذين دخلوا في النقاش لربما لم ينتبهوا لأنهم يدافعون عن القانون الذي يمنع بيع الخمر للمسلمين وكأنه مباح لغير المسلمين والله إذا حرم شيئا حرم ثمنه فالخمر حرام وآفاته المتعددة لا تخفى على ذي عينين سليم العقل نقي الفطرة، ولذلك ينبغي أن يزول من بلاد المسلمين. ويبقى السؤال في غياب مشروع حكومي متكامل يقضي بمنع الخمور وتصفية صناعتها وتجارتها، هل يفعلها شباط ويمنعها ما دامت كل الحانات والمتاجر مخالفة للقانون ببيعها الخمور للمسلمين؟ الله أعلم.