مع كل ما قدمه المغرب من تنازلات ومقترحات جادة وشجاعة؛ يبدو أن ملف صحرائه دخل إلى نفق مظلم..
ويبدو أن (الإمبريالية) اتجهت –من خلال درعها في المنطقة (النظام الجزائري)-؛ نحو ترجيح كفة أعداء وحدتنا الترابية، مشهرة سلاحها الذي تدخلت به في التدبير السياسي في كثير من الدول: (حقوق الإنسان)..
هذا السلاح خربت به دولا وانتهكت به حقوقا كبرى ودمرت به حضارات وقيما إنسانية فاضلة..
وها هي توظفه اليوم لفرض مزيد من التنازلات على المغرب:
في أبريل الماضي حاولت الخارجية الأمريكية توسيع صلاحيات بعثة (المينورسو) في الصحراء لتشمل حقوق الإنسان، واقتضى الأمر تدخلا ملكيا مباشرا لعدم تبني تقريرها من طرف الأمم المتحدة..
وفي شتنبر المنصرم صادق أعضاء البرلمان الأوروبي على تقرير البرلماني البريطاني (شارل طانوك) حول حقوق الإنسان في الأقاليم الصحراوية.
وقد أشار التقرير في ديباجته إلى الوضعية القانونية لما سماها (الصحراء الغربية) وفقا لمقررات الأمم المتحدة باعتبارها إقليما محتلا لا يزال لم يتمتع بحق تقرير المصير!
ومن أهم ما ورد في التقرير التأكيد مجددا على حق تقرير المصير للشعب الصحراوي!!
كما أعرب التقرير عن قلق الاتحاد الأوروبي العميق إزاء مواصلة الدولة المغربية تعذيب واختطاف واعتقال الصحراويين واستهداف المدافعين الصحراويين عن حقوق الانسان في إشارة إلى التقارير التي قدمتها الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الحقوقية المختصة، والتي أشارت إلى التعذيب والاختطاف والاحتجاز التعسفي، وحالات الاختفاء القصري ضد الشعب الصحراوي! خاصة تجاه المطالبين باستقلال الصحراء الغربية، كحالة معتقلي مخيم أكديم إزيك الذي تم تفكيكه في نوفمبر 2010، وتقديم 25 مدني صحراوي أمام محكمة عسكرية أصدرت في حقهم عقوبات وصلت إلى 30 عاما أو السجن مدى الحياة..
وسيعرض تقرير (طانوك) على الجلسة العامة للبرلمان الأوروبي في أكتوبر الجاري..
وبالموازاة مع هذه المناورات الديبلوماسية؛ تُحرك جهات معينة أعمال شغب مفتعلة؛ من أخطرها ما جرى في أسا زاك قبل نحو أسبوعين، ومنها: أعمال الشغب والعنف التي قامت بها بعض العناصر السبت الماضي بالعيون للتشويش على زيارة كريستوفر روس، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لكل من مدينتي العيون والسمارة، والتي ترتب عليها إصابة خمسة عناصر من قوات حفظ النظام بجروح نقلوا على إثرها للمستشفى لتلقي العلاجات الضرورية.
(طبعا: ليس للإمبريالية الآن مصلحة في تحريك ملف حقوق الإنسان ضد (البوليساريو) الذين ينتهكونها صباح مساء في مخيماتهم المشؤومة..
كما أن الاتحاد الأوروبي لم يسم مواجهة قوات الأمن البريطانية لأعمال الشغب التي شهدتها لندن صيف عام 2011 مثلا -والأمثلة كثيرة-؛ انتهاكات لحقوق الإنسان، وقد أفضى تدخل تلك القوات إلى اعتقال أكثر من 1000 شخص، واستخدمت الشرطة الرصاص المطاطي وخراطيم المياه ضد مثيري الشغب).. إلـخ.
الخطاب الملكي الأخير في البرلمان، دق ناقوس الخطر وبين بوضوح أن ملف الصحراء دخل مسارا غير مرضي يهدد وحدتنا وتماسكنا الوطني والمجتمعي، مع الإشارة إلى ضعف أداء المؤسسة البرلمانية في نصرة القضية، ودعوة الجميع إلى تحمل مسؤوليتهم..
التحدي كبير والموضوع معقد وخيوطه متداخلة ومتشابكة..
ولعل أخطر ما في الموضوع: أننا نعاني من نفوذ لوبيات سياسية واقتصادية وثقافية ومجتمعية لا تؤمن صدقا بثوابتنا، بل فيهم من يظهر الوطنية ويبطن الولاء المطلق للمصالح الإمبريالية.. وهو مستعد لبيع الوطن في مقابل ما يتسلمه تحت الطاولة..
خطورة هؤلاء تكمن في كونهم متغلغلين في كل المجالات الحيوية: (السياسة / الإعلام / عالم المال والأعمال..).
وهم مرصودون لتسهيل تمرير مخططات الإمبريالية التي تضمن استمرار مصالحها وهيمنتها..
(لا أظن أن المستبعدين لنظرية المؤامرة سيبقون ثابتين على موقفهم بعد ما جرى ويجري في مصر!)
إن استمرار سياسة مساومة الدولة بقضية صحرائها؛ واقع يفرض طرح تساؤلات عديدة حول وضعية السيادة الوطنية؟
ومدى تدخل (محتل الأمس) في استقلاليتها؟
والوسائل التي يستعملها في هذا التدخل؟
وأرى أن هذا الواقع الحساس بحاجة إلى نقاش وطني جاد وصريح، كما أنه يفرض معالجات كثيرة؛ من أهمها في نظري:
– اجتهاد النخب من الوطنيين الصادقين في توعية عموم المواطنين بأهمية اللحمة الوطنية وبيان وسائل تمتينها وخطورة العمل على تمزيقها.
– السعي لإيجاد مناخ سياسي ومجتمعي يتعزز فيه حضور ورسوخ الثوابت الدستورية وعلى رأسها: الإسلام بأحكامه وقيمه..
لا ينبغي أن نترك ثوابتنا صورا بلا حركة وهياكل بلا أرواح.
كما أنه يتعين التعامل بحزم مع العاملين على هدمها باسم حقوق الإنسان؛ لأن هؤلاء يهددون أمن الوطن ويتاجرون باستقراره..
وفي الوقت الذي يرفض فيه هؤلاء اعتبار قيم الإسلام –الذي هو مرجعية الأمة وصاحب الصدارة في هويتها-؛ قيما عليا ومطلقة، ويدعون لإخضاعها للنسبية؛ فإنهم لا يخضعون قيم المرجعية (الكونية) لقانون النسبية ويدعون إلى اعتمادها بشكل مطلق وشامل، وهؤلاء هم الذين رفضوا ما تضمنه الدستور المغربي من تقييد سمو المواثيق الدولية بما لا يتنافى مع الثوابت الوطنية.
وما يدرينا لعل ما يتعرض له المغرب من مضايقات؛ سببه هو اعتماد ذلك القيد؟!
أعود فأقول: يصعب جدا إفشال مخططات أعداء ثوابتنا ما لم نبث روح الحياة في تمسكنا بها.
هذه الروح كفيلة بتعزيز اللحمة الوطنية ونزع فتائل الفتن وإخماد أو تحجيم نيران النزعات الانفصالية التي تنفخ فيها وزغة أعداء وحدتنا من منطلق طائفي (نشر المذهب الشيعي)، أو عرقي (الأمازيغية المتطرفة) أو جغرافي (الصحراء الغربية) أو إيديولوجي (العلمانية)..
إن تماسك واستقرار كل أمة أو دولة رهين بمدى تمسك مؤسساتها ومكونات مجتمعها وأفرادها؛ بالقيم التي تأسس عليها وجودها وقامت عليها حضارتها..
وهذه القيم في أمتنا هي قيم الإسلام بشمولها وإطلاقها؛ من عدل ووحدة وتكافل وأمانة وأخلاق وتعايش وسلم..، كل ذلك في إطار العبودية لله رب العالمين، وما تستلزمه هذه العبودية من استقامة وإصلاح، وصدق مع النفس ومع الآخر.
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]
إنها القيم التي مكنتنا من بناء حضارة كبيرة قوية ومتوازنة، وأسهمت في إضعاف نزعات التفرقة بكل أشكالها.
وفي سبيل ضمان استمرار القيم ودورها المهم؛ لا بد لكل دولة من ترسيخ منظومة قانونية ومشاريع تربوية تعين على ترسيخ الثوابت التي تصون تلك القيم، وتعزز سلوك الصدق في التمسك بها..
وما دام تمسك الكثيرين بالثوابت؛ أمرا شكليا وموقفا (براغماتيا)؛ فإننا سنبقى في مهب الإعصار الذي يهدد كل أمة لا تصدق في تمسكها بثوابتها..