أوسع الناس حرية أشدهم لله عبودية الدكتور يوسف مازي أستاذ باحث في العلوم الشرعية عضو المجلس العلمي المحلي ببني ملال

لا أحد في تقديري يمكنه أن ينكر علي تقسيمي للحرية إلى:
حرية متوهمة: مثل الحريات الجنسية والشخصية والحيوانية والغريزية والسياسية..
وحرية حقيقية: كحرية الأمة في اعتقادها وتفكيرها وثقافتها واختياراتها..
ولا أحد في تقديري المتواضع يمكنه أن ينكر علي إطلاق الفوضى والعبثية والإفلاس على ما يسمى عند البعض بالحريات الجنسية أو حرية الشهوات أو الغرائز…
ولهذا أقرر من بداية هذا المقال أن الحرية الجنسية أو الغريزية أولها فوضى وآخرها عبودية ذليلة. لأنه وكما هو مقرر في قناعات سليمي الفكر والاعتقاد أنه ليس في الدنيا حرية مطلقة غير مقيدة ولا مضبوطة بقانون أو نظام.
ولله درّ الأفوه الأودي واسمه صلاةُ بن عمرو بن مالك الذي قال:
البيتُ لا يبتنى إلاّ له عمدٌ ولا عماد إذا لم تُرسَ أوتادُ
فإن تجمع أوتادٌ وأعمدةُ وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جُهالهم سادوا
تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت فإن تولتْ فبالأشرار تنقاد
إذا تولى سراة القوم أمرهم نما على ذلك أمر القوم فازدادوا
فحريات الفرد لا يمكن أن تصان إلا حين تقيد ببعض القيود لتسلم معها حريات الآخرين. ومن هنا كانت الحكمة والحاجة إلى الشرائع والدساتير والأنظمة والقوانين حتى لا يصبح الناس فوضى لا سراة لهم.
والوسائل هذه المقننة والمنظمة للحريات هي بمثابة الكابح الذي يكبح جماح الفوضوي الذي يسعى إلى إذابة الحواجز والحدود ليعيش هو وليس غيره الذي قد لا يتقن فن خداعه ومكره في اللاقيد واللانظام، يخدع من شاء ويمكر بمن شاء ويحصل على ما شاء بالكيف الذي شاء. إنها الليبرالية المفترسة والمتوحشة التي تأتي على الأخضر واليابس ولا ترقب في إنسان إلا ولا ذمة.
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وجدناهم كاذبا إلَّهم وذو الإلِّ والعهد لا يكذب
فذو القرابة والعهد لا يكذب، كما أن الرائد لا يكذب أهله. فتمام الحرية قد يكون بالمنع أحيانا. كالمريض الذي يُمنع من أنواع من الطعام والشراب من أجل تحصيل الشفاء. وكذلك جاء الإسلام بأحكامه وتعاليمه ومبادئه وقواعده وأسسه.. ليمنع من أشياء ويبيح أخرى، وينهى عن أمور ويأمر بأخرى، ويحرم ويحل، ويحذر ويرشد، ويسدد ويقارب.. وهكذا يضع أمام الناس كلهم دليل الحياة المثلى، الحياة الشريفة العفيفة لا الدنيئة، والطاهرة لا القذرة، والمنظمة لا الفوضوية والعشوائية… {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الملك:14.
إنها حياة الإسلام حياة الرحمة والمحبة والوئام والحرية الحقيقية لا الوهمية. لأن تمام الحرية أن لا يستعبدك أحد ممن يساويك في إنسانيتك أو من هو دونك فيها.
وهذا معنى من معاني العبودية في الإسلام يا دعاة الحريات الوهمية.
إن العبودية التي يدعو إليها الإسلام ليست قيدا ولا سجنا كالتي ثار عليها أساتذة دعاة الحرية والحداثة اليوم في الغرب من فلاسفة التحرر والأنوار.. ولهذا فكل قياس في هذا الباب إنما هو قياس مع الفارق.
فكيف تجهلون أو تتجاهلون حقيقة العبودية المحررة للفرد والمجتمع في الإسلام من أي قيد ولو كان قيد استيلاء عادة الانطلاق وراء كل لذة والانفلات من كل قيد، وتنبطحون بين يدي فلسفات غربية لها سياقها التاريخي والإيديولوجي وأسبابها الاجتماعية والدينية و.. بدعوى البحث عن المنهج والمنهاج الذي قاد غيرنا وللأسف إلى هذا الإفلاس والانفلات والفوضى الأخلاقية..
فكل دعوة إلى الحرية بمفهوم دعاتها وأدعيائها اليوم إنما هو دعوات مبطنة إلى الانسلاخ من العبودية الاضطرارية بعدما انسلخوا من العبودية الاختيارية..
وهذا والله هو السجن والحجر بعينه الذي ينقلب في أهون صوره إلى عبودية لأهون ما في الحياة من قيمة ومعنى… الغريزة! الجنس! الجسد! الشهوة!..
وقديما قيل من كان همه بطنه وفرجه فقيمته ما يخرج منهما!!!
فيصبح هذا وللأسف أسيرا لا حرا؟ أسيرا للحظات، ورهينا للإشارات؟ شارد اللب؟ عاجزا؟ يجري وراء الأحلام والأوهام…
فإن كانت بالله عليكم هذه هي الحرية المزعومة: عادة تتحكم؛ وشهوة تستعلي؛ ولذة تطاع… فلهي والله أهون أنواع الحريات وأسرعها زوالا…
أما الحرية الحقة أيها الباحثون الصادقون عنها فإنما هي الحرية التي جاء الإسلام بفلسفته الشمولية ليدل الناس والحيارى عليها.
حرية تجعل من صاحبها حرا طليقا أمام كل شيء، إنه المؤمن الحق الحر.. الذي يستطيع أن يسيطر على أهوائه، وشهواته، وملذاته، ويصرفها بكل حرية في مصارفها التي خلقت لها ولتصرف فيها. إنه ينمي نوازع الخير ويدس نوازع الشر: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} الشمس. مؤمن حر طليق لا تستعبده عادة ولا تستذله شهوة…ومن كان هذا هو حاله كان متحررا من كل ما عداه. ففي الحرية تمام العبودية وفي تحقيق العبودية تمام الحرية. وصدق ابن عطاء الله حين قال: “أنت حر لما أنت عنه آيس، وعبد لما أنت له طامع”.
وحتى لا نذهب بعيدا؛ نضرب مثالا للحرية المقصودة للإسلام على سبيل الاستشهاد والتمثيل اكتفاء به عن الحصر والتمثيل. ففي شعيرة رمضان وكما هو الحال في سائر شعائر الإسلام {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}الحج؛ حث وتربية إعداد لتمثل حقيقة الحرية في الإسلام. لأن الصائم حينما يصوم لله اختيارا وعلى طواعية إنما حقيقة صومه تمرد على كل الشهوات والملذات التي أحلها الله تعالى لعباده المؤمنين، فكيف بما حرم سبحانه.
والتمرد على هذا هو أول صفات الأحرار الذين يبنى بسواعدهم صرح الحضارات الإنسانية ويسطر عن طريقهم أعظم البطولات والانتصارات التاريخية..إنهم وباختصار وكما وصف حالَهم في جانب واحد من جوانب الحياة سبحانه وتعالى فقال جل في علاه: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّـهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّـهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّـهِ، وَاللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة.
فكان النصر حليف القلة الصائمة الحرة المتحررة من سلطان الشهوة وذل اللذة… فلما هزموا العدو الداخلي وتحرروا من قيوده هزموا أعداءهم الخارجيين.. ولما غلبوا أهواءهم غلبوا أعداءهم…
هكذا يربي الإسلام أتباعه المسلمين المؤمنين المستسلمين أحرارا متحررين من الأغيار عدا الله سبحانه وتعالى. فهل جرب دعاة الحرية المتوهمة حرية العبودية لله تعالى؟
إنهم والله محرومون والمحروم حقا من حرم لذة حرية العبودية لله جل شأنه.
وأنا أدعو من خلال هذه المقالة المتواضعة هؤلاء أن يصدقوا أنفسهم وأن يتوافقوا مع فطرة الله التي فطر الناس عليها ويتمثلوا قول الحق سبحانه وتعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ، ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم:30.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *