تحدث التاريخ بتفصيل عن طبيعة المسلمين وطليعتهم، وعن نهضتهم ويقظتهم وما كان بينهم من قوة الارتباط، وشدة الاتصال، والتزام الأخلاق والآداب، مما أدى بالدولة الإسلامية في أوائل تاريخها إلى قطع أشواط بعيدة المدى في خدمة الحضارة الإسلامية، ونشر أصولها في الأقطار البعيدة النائية، وإلى الإسهام في سعادة الإنسان، ورفع مستواه، بما ظهر لهم من الاستنباطات والاختراعات التي قد يظن أنها من مواليد العهد القائم، مع أنها من جملة نشاطهم، وصميم إنتاجهم بشهادة المؤرخين الأجانب الذين فارقهم الحقد والحسد.
ولعل السبب فيما واتاهم من الحظ أنهم لم تكن قد تفرقت بهم الطرق وتمكنت منهم الأهواء فاتبعوا الشهوات، وتركوا الصلوات، بل كانوا يتحمسون لمزايا مدنيتهم، ويتشددون في الاعتزاز بدينهم، ويجمعون شرائعه في قلوبهم، ويحرصون على الأمانة في اجتماعهم ومقاومتهم وسياستهم، متصلين بتعاليم الله في حياتهم المدنية والعسكرية، وفي أنظمتهم الداخلية والخارجية، لا يبغون عنها حولا، ولا يسيرون بها عوجا، حتى أصبحت قوتهم في الأرض واعية، ولغتهم في الخلق نامية، ترجع سائر اللغات إلى لغتهم العربية، فتسود في ظاهر الحياة وباطنها، وتجول في كبير الأمور وصغيرها، عاقدين الصلة بين الدين والدولة، وبين الدنيا والآخرة، ومستيقنين أن كمال الحقيقة لا يأتي إلا بضبط المفاهيم الإسلامية، وممارسة الأحكام ومراعاة المقاصد، فلا شأن للأقوال الباطلة، ولا قرار للجزئيات بدون اعتبار الكليات.
هكذا كان الأجداد رحمهم الله يستوون على صهوة العز والمجادة، ويعتلون منصة الحكم والسيادة بما حفظوا من أمر الله ودينه، وبما كسبوا من الحمد والثناء، ومن حفظ أمر الله حفظه الله، ومن ضيع أمر الله تعرض للمكاره والأحداث.
وإنه لحتم على الأحفاد الذين يعيشون في عالم تتحكم فيه المادة الزائفة وتسوقه إلى شيطانها، وتكرهه على طاعتها، أن يلتفتوا وراءهم، ويستنقذوا تاريخهم، بما يحول دون الوقوع فيما تؤول إليه الشعوب التي لا تقدر السير إلى مصيرها، ولا تلاحظ الأخطار في المساعي التي تأتيها فتتعرى من حيث لا تشعر من أوضاع مجدها، وأسباب عزها، وأن يتلمسوا طريق الخلاص من سيطرة الأهواء حتى يتاح لهم أن يقوم مجتمعهم ودستورهم على صراط الإسلام الذي يرضاه الله لجميع الناس، والذي لا يقاس بوضعه أي وضع من أوضاع الناس، ذلك الوضع الذي رفع الإنسان بسلطان العقل، وقسطاس العدل، وكفل سلامه بما بث من وسائل الود والإخاء، وربط مجتمعه بما حث عليه من البذل والسخاء فضلا عما أوجب على الدولة، وأرباب النعمة من حقوق البؤساء، حتى لا يسكن الحقد في الصدور، ويعظم داء الشرور، وأرشد إلى التعارف والتفاهم بين سائر الأجناس من دون علو ولا استعلاء، وعلى الأخص الذين جمعوا روابط الملة والدين، وحملوا مشعل الهداية والنور، وحرسوا بأيمانهم راية الوحدة والشرف، وأقاموا صرح المدينة الفاضلة على دعائم التربية الصالحة، وتوجهوا إلى حياة التعاون والترافق، وقصدوا إلى علاج المشاكل والمعاضل.
فمن السداد أن نعد العدة ونجمع الأخوة في صعيد واحد لا فرق بين من أساء وتاب، وبين من أحسن وطاب، حتى لا نكلف النفس شططا، ولا نهدم الوحدة غلطا ولا نكون شتاتا وشعاعا، ومن الحكمة أن نتغاضى عن العيب لنتوقى شر السياسية، ولنصلح فساد الأسرة، فقد دأبت جماعة من المنافقين تسيء إلى الإسلام وأهله، وتستهزئ برسول الله في قوله وفعله، وترجف في المدينة، وتهيج الناس، فتغاضى عنهم الإسلام وقابلهم بالحسنى، حتى لعنهم الله بما كذبوا، وأركسهم بما كسبوا، ويقال: اللبيب العاقل، هو: الفطن المتغافل، وفي قوله عز وجل: “عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ” ما يومئ إلى ذلك المعنى.
على أن الإنسان خلقه الله ضعيفا في نفسه ضعيفا في وجوده -ضعيفا في عزمه- ضعيفا في صبره، لا يقوى على مفارقة الشهوة، ولا يشتد على مقاومة الأزمة، إلا من أخذ الله بيده، وربط على قلبه، ولذلك عذره الله الذي علمه كذلك، وخلقه كذلك، وندب إلى العفو والصفح عنه كذلك، فجعل له من جهة ضعفه رفقا يستند إليه في حياته، وكان من الرفق به أن جعل له مجالا في رفع الحرج عند صدماته، ولاسيما إذا انهارت قوة الضمائر، وترحلت غيرة البصائر فإنه لا تبقى حينذاك للنفس عفة، ولا المقلب قوة، وقوة الإنسان في قلبه، وعزته في جهاد نفسه.
وهذه صور من التاريخ علها تنبئك عن طريق الحكم، وتريك باطن الأمر وأول هذه الصور قضية حاطب بن أبي بلتعة اللخمي الذي أخبر المشركين بما عزم عليه المسلمون من غزو مكة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في الصحيح، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخٍ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فذهبنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت ما معي كتاب، فقلنا أخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناسٍ من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ فقال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة ٌ يحمون بها أموالهم وأهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. قال فأنزل الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) الآية، ويقول في آية أخرى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وظاهر أن مثل هذا العمل يعد من التجسس لصالح الأجنبي، ومن الخيانة للوطن الإسلامي، ومع ذلك فقد صدقه عليه السلام في العذر، وبرأه من النفاق، بما يمنع القياس، ويوجب الاختصاص.
..وهذا ما ثبت في أصول التشريع من أن الفعل إذا تعلق به القصد، وتعلق به الحكم وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء كحال النائم، والغافل والمكره.
وأما من خالف وضعا من أوضاع الإسلام، أو عارض مصلحة من مصالحه، أو أولى أمرا من أمور المسلمين فلم ينصح فيه، أو حكم قصدا بغير ما حكم الله فيه، فهو خائن ليدنه ووطنه، وخائن لله ورسوله ومن خان الله ورسوله في أمر أفسده الله عليه في كل وقت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)، وعن ابن عمر: يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب.
ذلك وأسوأ خيانة كانت قبل الإسلام خيانة أبي رغال المشهور بدلالته لأبرهة الحبشي على البيت الحرام، عندما مر هذا بالطائف وثقيف.
وأسوأ خيانة بعد الإسلام، خيانة ابن العلقمي وزير المستعصم الذي غدر وأطمع التتار في أخذ بغداد، حتى آل الأمر إلى طغيان التسلط، وفساد الأمر، ولعله يكون في هذا القدر كفاية لمن اكتفى، ومغفرة لمن زل وهفا، ثم استمر وصفا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
مراكش-الرحالي الفاروقي
دعوة الحق العدد الثاني السنة السادسة
جمادة الثانية 1382- نونبر 1962