شَيءٌ مِنْ جُهُودِ الْعَلاَّمَة”سعيد أعراب” فِي الْعِنَايَةِبِتَارِيخِ الْمَسَاجِدِ،وَإِبْرَازِ أَدْوَارِهَا الْمُتَعَدِّدَةِ

للعلاّمة المغربي سعيد أحمد أعراب إسهامات علمية، وجهود أدبية في البحث والكتابة والتأليف ساهم بهما في تنشيطالحركة الثقافية بالمغرب الأقصى في سبعينيات القرن الماضي، ويمكن أن نُجمل اهتماماته فيما يلي:
– التحقيق، وفنالمقالة الأدبية.
– الترجمة لأعلام المغرب والأندلس، وخاصة رجالات القراءات القرآنية بالمغرب.
– العناية بتاريخ المساجد المغربية.
وعنايةُ العلاّمة سعيد أعراب بتاريخ المساجد، يعكس تشبّعه بالثقافة الإسلامية من جهة، ثم انتباهُهُ إلى الدور الذي أداه المسجد في إصلاح العقول، وتربية الأجيال في مختلف العصور التاريخية من جهة أخرى. وانطلاقا من كتاباته التي اهتمت بتاريخ المعالم الحضارية والدينية، التي دوّنها في العديد من المجلات المغربية كمجلة “دعوة الحق”، ومجلة “البحث العلمي”، ومجلة “الميثاق”، ومجلة “تطوان”، ومجلة “دار الحديث الحسنية”، وغيرها من المجلات المغربية التي ساهم فيها بحظ وافر من أبحاثه، يمكن أن نُسطّر أهم النقط التي كان يركّز عليها في ترجمة وعنايته بالمساجد، في الآتي:
– البحث في تاريخ المسجد، ومؤسّسه.
– التعريف بالمسجد، ووصف أركانه، ومرافقه.
– البحث في الوثائق الوقفية للمسجد.
– إبراز أهم الأدوار التي قام بها المسجد.
لا شك أن كثيرا من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية قد بيّنت المكانة السامية التي أُعطيت لبيت الله، وما ذلك إلا لأهمية المسجد في بناء الإنسان على أساس الفضيلة، والأخلاق الإسلامية السّمحة، قال الله تعالى: ((لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَومٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)) (1). ففي المسجد يتربى الفرد روحيا، وإيمانيا، وخُلقيا، واجتماعيا. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “المَسْجِدُ بَيتُ كُلِّ تَقِيٍّ”(2).
أجل، لقد كانت للمسجد قيمته الروحية والتربوية، وقد أدى دورا أَسَاسًا في بناء الحضارة الإسلامية؛ وعندما غاب هذا الدور، أو غُيّب على نحو أصح، أصبحنا نعيش تفسخا أخلاقيا، وتشرذما سياسيا، وتشتتا اقتصاديا، وغلوا مذهبيا، وتطرفا دينيا؛ لأن من المسجد انبثقت مختلف تيارات الفكر الإسلامي، وأن كل متتبع للحركة الفكرية بما فيها من مذاهب لغوية وفقهية وكلامية، وفلسفية سيجد أصولها وينابيعها مرتبطة بحلقات الدرس والمناقشة التي كانت تُعقد في زوايا المساجد الإسلامية. وفي”المسجد كان المسلم يتلقى زاده الخُلقي والتربوي؛ إذ فيه كان يستشير ويستفتي عن أمور دينه ودنياه ومعاشه اليومي، من أكل وشرب ولباس وزواج وتجارة، وكانت مفاهيم الحياة وتصورات الخير والشر يتعلمها ويستوحيها من المبادئ التي تلقنها في المسجد”(3).
وهكذا لم يكن المسجد مكان خشوع وسكينة، ومحراب تدبر وتأمل فقط؛ بل كان مؤسسة تُدرّسُ فيها مختلِف العلوم، وبشتى أنواعها، فقد تخرّج منها قرّاء، ومحدّثون، ومفسّرون، وفقهاء، ولغويّون، وأطبّاء، ومهندسون، ورياضيون، وسياسيون، ومؤرّخون، وجِغرافيون، وقياديون…يقول العلاّمة الأستاذ سعيد أعراب في مكانة، ودور “مسجد شفشاون” الذي بناه الأمير أبو عبد الله بن راشد، حوالي منتصف القرن العاشر الهجري: “وهكذا ظل جامع شفشاون – طيلة أربع قرون، وربع – المورد العذب، والمنهل الصافي، يرده الطلاب، ويكرعون من حياضه ومناهله، وقد وقف كالجبل الشامخ، يصارع الزمان، ويؤدي رسالته الخالدة، وكان منار إشعاع ينير الفكر ويرشد العقل، ويهدي إلى طريق النجاة”(4). ونُدرك هذه المكانة النبيلة التي اضطلع بها المسجد عبر التاريخ ما قاله الرسول الأكرم: “مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا لَمْ يَأْتِهِ إِلاَّ لِخَيرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله، وَمَنْ جَاءَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ”(5).
هذا؛ وقد اهتم بعضٌ من علماء المغرب بالمساجد اهتماما منقطع النظير، ويقول العلاّمة الأديب عبد الله كَنون عن “المسجد الأعظم”، بمدينة “طنجة”، الذي بُنِيَ على عهد السلطان مولاي سليمان، وبأمر منه سنة 1233 : “ومرت على المسجد الأعظم فترة كانت الدروس لم تنقطع فيه، وفي أيام طلبنا كانت تعقد فيه أكثر من عشر حلقات يومية للفقه، والنحو، والبلاغة، والحديث، والكلام، والمنطق، والأصول”. ومن المزايا التي حظيت بها المساجد المغربية هي تلك المكتبات التي توجد بجنبات المساجد، والتي كانت موقوفة عليها، حيث تضم كتبا في مختلف المجالات العلمية، والدينية، كما كانت تتوفر على نفائس المخطوطات. و”جامع القرويين” الذي بنته امرأة اسمها فاطمة الفهرية بمدينة “فاس” العتيقة عام 245هـ، حيث وهبت كل ما تملكه لبناء هذه المعلمة الدينية الشامخة، أنموذج حي، لما ضمته مكتبتُه من كنوز المخطوطات التي حُقِّقَ جزءٌ منها، والجزءُ الآخر لا زال ينتظر من ينفض عنه الغبار لتحقيقه، وإخراجه إلى أيدي القرّاء. وكان للمسجد بالمغرب دور هام في تثقيف المغاربة، إذ يؤكد العلامّة سعيد أعراب هذا الدور قائلا: “كان منار إشعاع، وتثقيف، وتعليم وكان المعلمون فيه من الطراز الأول في العلم والمعرفة، والأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن، فبفضل جهودهم وجهادهم: تعلم المغاربة أصول الإسلام قرؤوا القرآن، وعرفوا اللغة العربية، ورسخت في قلوبهم جذور العقيدة الإسلامية”(6). وينبغي أن نذكر أن المسجد قد كان له وقع كبير على ازدهار اللغة العربية، والعناية بها من خلال الدرس القرآني الذي كان يُقدّم في الحِلَقِ العلمية التي كان يديرها شيوخ العلم والدعوة، ويقول الدكتور إبراهيم السامرّائي: “إن القرآن قد أقام درس العربية على أنماط جديدة لم يهتدِ إليها العرب قبل أن يتأدبوا بأدب القرآن”(7).
والحديث عن أهمية الدراسات القرآنية في الحفاظ على رونق اللغة العربية، وجمالياتها تحدث عنه غير واحد من العلماء،حيث يقول الدكتور عبد الله بن إبراهيم المغلاج: “وكانت العناية باللّغة العربيّة في عصور الإسلام الأولى كأي شأن من شؤون الدّين؛ بل لقد كان الدّين دافعًا قويًّا للعناية بها، وحسبنا أنْ نعلم أنّ قواعدها لم تُدَوَّن إلاّ صونًا للقرآن الكريم من أنْ يدخله شيء من اللّحن”(8). هذا؛ ويدعو العلاّمة السوداني عبد الله الطيّب إلى ضرورة الرجوع إلى القرآن الكريم في التعليم، فيقول: “فالرجعة إلى القرآن ضرورية. ويرجع إليه هذه المرة ليكون وسيلة لتعلم العربية وتعليمها إذ لا نستطيع أن نجعله غاية تطلب من وراء تعلم العربية واستقراء أسرارها كما كان يفعل الأولون”(9). ويضيف العلاّمة عبد الله الطيّب واضعا يده على مكمن الخلل: “إن من أكبر أخطائنا أننا أهملنا دروس القرآن”(10).
تلكم بعضٌ من جهود العلاّمة سعيد أعراب الموجزةِ، وبعض من آرائه في خدمة المسجد، وتبيان مكانته التربوية والتعليمية، كما تضمنت هذه الكلمة شيئا من آراء بعض العلماء لتعضيد وتثمين هذه الأدوار السامية التي كانت للمسجد، باعتباره المدرسة الأولى التي ساهمت بناء الإنسان، والحضارة العربية الإسلامية على أسس متينة.
…………………………………………………………………………………………
(1)– التوبة/ 108
(2)– رواه الطبراني، وصححه الألباني.
(3)–مجلة “دعوة الحق”، مقدمة العدد (6)، السنة (1962).
(4)– نفس العدد، مقال بعنوان: “جامع شفشاون”، ذ/ سعيد أعراب، ص: 34 – 35.
(5)– رواه أحمد (14/ 257)، وابن ماجه (223).
(6)–مجلة “دعوة الحق”، العدد (303)، مقال بعنوان: “المسجد بالمغرب ودوره التعليمي والديني في عصر الفتح الإسلامي”، ذ/ سعيد أعراب، السنة (1994)، ص: 124.
(7)– في شرف العربية، د/ إبراهيم السامرّائي، ص: 37.
(8)– مجلة “فقه اللسان”، العدد (1)، مقال بعنوان: “اللُّغة العربيةُ وعلاقتُها بعلم التّفسير”، د/ عبد الله بن إبراهيم المغلاج، السنة (2016)، ص: 48.
(9)– مجلة “الدوحة”، العدد (70)، مقال بعنوان: “ضرورة الرجوع إلى القرآن الكريم في التعليم”، د/ عبد الله الطيب، السنة (1981)، ص: 16 – 17.
(10)– مجلة “الدوحة”، العدد (75)، حوار أُجري مع د/ عبد الله الطيّب، السنة (1981)، ص: 20.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *