الإجهاض من منظور شرعي

المعتمد عند علماء المالكيّة هو تحريم الإجهاض مطلقا؛ قال الدّردير: لا يجوز إخراج المنيّ المتكوّن في الرّحم ولو قبل الأربعين يوماً، وعلّق الدّسوقيّ على ذلك بقوله: هذا هو المعتمد. وقيل يكره.
ممّا يفيد أنّ المقصود بعدم الجواز في عبارة الدّردير التّحريم.
كما نقل ابن رشد أنّ مالكاً قال: كلّ ما طرحته المرأة جناية، من مضغة أو علقة، ممّا يعلم أنّه ولد، ففيه الغرّة، وقال: واستحسن مالك الكفّارة مع الغرّة.
والقول بالتّحريم هو الأوجه عند الشّافعيّة؛ لأنّ النّطفة بعد الاستقرار آيلة إلى التّخلّق مهيّأة لنفخ الرّوح. وهو مذهب الحنابلة مطلقاً كما ذكره ابن الجوزيّ، وهو ظاهر كلام ابن عقيل، وما يشعر به كلام ابن قدامة وغيره بعد مرحلة النّطفة، إذ رتّبوا الكفّارة والغرّة على من ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً، وعلى الحامل إذا شربت دواءً فألقت جنيناً.
واتّفق الفقهاء على أنّ الواجب في الجناية على جنين الحرّة هو غرّة؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره: “أنّ امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى ، فطرحت جنينها ، فقضى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغرّة عبد أو وليدة”.
كما اتفق الفقهاء أيضا المذاهب على أنّ مقدار الغرّة في ذلك هو نصف عشر الدّية الكاملة، وأنّ الموجب للغرّة كلّ جناية ترتّب عليها انفصال الجنين عن أمّه ميّتاً، سواء أكانت الجناية نتيجة فعل أم قول أم ترك، ولو من الحامل نفسها أو زوجها، عمداً كان أو خطأً .(أنظر الموسوعة الفقهية؛ 2/42).
كما نص السادة العلماء أن إجهاض الجنين الذي ينشأ عن زنى محرم في الشريعة أيضا، أياً كان ميقاته؛ وسواء أنفخت فيه الروح أم لم تنفخ فيه بعد، دليل ذلك:
أولا: قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، أي لا تتحمل نفس وزر غيرها، مما لم يكن لها يد في كسبه أو التسبب به. ومن المعلوم أن من أهم الأسباب التي تدفع الزانية إلى إسقاط حملها، رغبتها في التخلص من نتيجة ما قد أقدمت عليه؛ كي لا تؤاخذ بجريرتها ويشتهر بين الناس أمرها؛ فيذهب الجنين بذلك ضحية ذنب لا شأن له به.
ولا مسوغ في الشرع للتضحية بحياة بريء من أجل ذنب اقترفه غيره دون أن يكون له أي دخل فيه. وهذا من دلائل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
ثانيا: حديث المرأة الغامدية الذي رواه مسلم بسنده عن بريدة رضي الله عنه، وفيه: “فَجَاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَإِنَّهُ رَدَّهَا فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى، قَالَ: إِمَّا لا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَالَ: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: مَهْلاً يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ”. رواه مسلم.
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: (فيه أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع، سواء كان حملها من زنى أو غيره، وهذا مجمع عليه؛ لئلا يقتل جنينها. وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل، لم تجلد بالإجماع حتى تضع).
فالحديث نص واضح على أن الزانية لا تملك أن تسقط جنينها؛ لأن التفريط به إن لم يكن جائزاً لتنفيذ الحد -وهو حكم لا يجوز التهاون به- فلأن لا يجوز هذا التفريط من أجل شهوة الأم الزانية وتحقيق رغباتها أهم وأولى.
هذا هو قول علماء المالكية وقول عدد من أهل العلم في حكم الإجهاض.
فهل سيكون المذهب العلماني بسمومه وتهافته حاكما على المذهب المالكي؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *