“ميثاق العلماء” وسؤال الإصلاح الديني الأمانة.. والإكراه السياسي إبراهيم الطالب

مسألة إصلاح الحقل الديني لم ترتبط كما يقول البعض بالتفجيرات الإرهابية التي عرفها المغرب في 16 ماي 2003، بل كانت بداية التفكير فيها عقب أحداث 11 شتنبر 2001 الأمريكية، بعد أن كثر الجدل بخصوص تفكيك خلايا نائمة سنة 2002، لينطلق الإعداد لوضع خطة شاملة لتنظيم الحقل الديني الذي كان يعرف إهمالا كبيرا من طرف وزارة الأوقاف، هذا الإعداد الأولي انطلق بتعيين أحمد التوفيق أحد أتباع الزاوية البودشيشية وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية كلف بوضع استراتيجية دينية جديدة، انطلقت بمراجعة كبيرة لعدد من القوانين المنظمة للأوقاف والشؤون الإسلامية، همت إعادة هيكلة الوزارة والرابطة المحمدية للعلماء والمساجد والتعليم العتيق ودار الحديث الحسنية وتكوين القيمين الدينيين، ومضاعفة عدد المجالس العلمية حيث أصبح يوازي عدد العمالات تطبيقا لسياسة القرب من المواطنين، حتى يكون لها حضور في الحياة الدينية للمغاربة.

وبعد استكمال التشريعات القانونية وإتمام إعادة هيكلة الحقل الديني، تم الإعلان في 27 من شتنبر المنصرم عن دخول مرحلة جديدة من الإصلاح الديني بإطلاق خطة “ميثاق العلماء”، التي اعتبرها الخطاب الملكي الموجه إلى العلماء خلال اجتماع المجلس العلمي الأعلى بتطوان “برنامجا نموذجيا للتوعية والتنوير، يقوم على حسن أداء العلماء لأمانة الإرشاد والتفقيه في الدين عن قرب، وهو ما يقتضي منهم الانكباب على تأهيل أئمة المساجد”.
“ميثاق العلماء” بين الأمانة.. والإكراهات
وضع خطة “ميثاق العلماء” واحترامها ليس من السهولة بالنسبة للعلماء العاملين الذين يهمهم الجمع بين رضا الله سبحانه والمشاركة في عملية الإصلاح، خصوصا في ظل التحديات التي تواجه العلماء أثناء قيامهم بمهامهم والمتمثلة في التوفيق بين إكراهات الواقع وبين القيام بمسؤوليتهم كعلماء، وما تتطلبه وظيفة البيان التي يقتضيها ميثاق الله الذي أخذه عليهم في قوله سبحانه: “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ” آل عمران 187.
هذا البيان قد يتعارض مع بعض القوانين الوضعية للبلاد التي تخالف الشريعة الإسلامية، كتلك المتعلقة بالربا، والقمار والميسر، ورخص الخمور..، كما يتعارض مع إصرار السلطات على الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي مما يحول دون قيام العلماء بواجب إنكار المنكرات من بغاء ورشوة وسفور وفساد إداري، الأمر الذي سيمثل أكبر عائق في وجه نجاح أي ميثاق للعلماء، لأن المواطن لا يزال يرى في مؤسسة العالم ممثلا له ومعبّرا عن طموحاته الدنيوية وقناعاته الدينية، هذا التمثيل الذي يعتبر فرعا عن إمارة المؤمنين التي اختزلت بعد الاحتلال الفرنسي وبعد وضع الدستور في الوظيفة الدينية في حين ألحق تدبير الشؤون الدنيوية الأخرى للدولة بصفة الملك في تقسيم لمفهوم ما كان يطلق عليه اسم “السلطان” بينما المواطن لا يفرق بين وظائف الملك السياسية والدينية، ونرى أن التفريق بينهما يكرس على المستوى العملي كثيرا من تطبيقات العلمانية حيث يمنع العلماء من ممارسة أي رقابة سواء قبل إصدار القوانين، أو أثناء تطبيقها، هذا الواقع يحدث اضطرابا شديدا في ممارسة العلماء لوظيفتهم الدينية المتعلقة بالإفتاء الذي يمثل أهم نشاطاتهم الحيوية والملحة خصوصا مع إمكانية لجوء المواطنين الذين هم موضوع الإصلاح الديني إلى مصادر أخرى للفتوى يرونها أكثر حرية وتجردا واستقلالية.
ذلك الاضطراب يضطر العلماء إلى الاكتفاء بوظيفة الوعظ والتوجيه التي يمارسها الدعاة على مختلف مستوياتهم العلمية، مما ينعكس سلبا على مكانة العلماء في المجتمع ويفرغ أي خطة لهيكلة وإصلاح الحقل الديني من محتواها، ويحول دون تحقيق الأهداف المتوخاة منها.
إن هذا التباين بل التعارض بين القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية، يجعل الكثير من العلماء المخلصين لدينهم ووطنهم ينأون بأنفسهم عن المشاركة في عملية هذا الإصلاح بينما يتسارع الوصوليون أصحاب المصالح الخاصة إلى ملء الفراغات.
إذن فتكريس تناقض القوانين مع المذهب المالكي ومع الشريعة الإسلامية، سيبقى من أهم العقبات التي تواجه أي إصلاح ديني، وذلك لأن مشروع الإصلاح برمته إنما قام لضبط هذا الرجوع الكبير إلى الالتزام بالدين من طرف المواطنين، ومعلوم أن هذا الالتزام لا يفرق فيه الناس بين ما هو ديني وما هو سياسي بل يطالبون بإخضاع الثاني للأول.
هذا المطلب -أي إخضاع السياسي للديني- يفرض على العلماء ممارسة مهامهم بكل حذر حتى لا يسقطوا في فخ الاجتهاد المتسيب الذي تفرضه معضلة التناقض بين القوانين والشريعة الإسلامية، والمقتضي لإخضاع الفتوى التي يفترض فيها أن تكون معبرة عن حكم الإسلام فيما يعرض من قضايا أو نوازل لمقتضيات التشريعات الوضعية أو الإكراهات السياسية.
إن التناقض بين ما هو سياسي وما هو ديني على مستوى الواقع يستغله العلمانيون بطريقة خسيسة لضرب أي مشروع للإصلاح الديني يروم رد الاعتبار للشريعة الإسلامية أو يتعارض مع طموحاتهم في علمنة البلاد والحد من اختصاصات المؤسسة الملكية في بعدها التوحدي بين ما هو سياسي وما هو ديني، مما يعمق من الهوة بين العلماء المخلصين والدولة.
كما أن التقوقع على خدمة الخصوصية المغربية هروبا من تحقيق إصلاح حقيقي يستجيب لمطالب المواطنين وطموحاتهم سيكون أهم عائق من عوائق إصلاح الحقل الديني، خصوصا في زمن سرعة تداول المعلومات عبر وسائل الاتصال السهلة وذات التكلفة المنخفضة ومع التعليم الذي ارتفعت نسبته بين المواطنين الباحثين عن المعرفة الدينية، مما يجعل إقناعهم بجدوى الرجوع إلى التصوف بما يعرفه من مخالفات بدعية وإلى تعقيدات العقيدة الأشعرية غير يسير كما كان عليه من قبل.
في ظل الإكراهات التي ذكرنا بعضها آنفا يبدو أن لا مناص للعلماء من الاضطلاع بمهامهم، واضعين ما يمليه عليهم الميثاق الرباني من أداء للأمانة تحقيقا لشروط العالم العامل، ومخافة أن يكونوا أول من تسعر بهم جهنم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
فماذا يطلب الناس من السادة العلماء؟
يجب على السادة العلماء حتى تنجح “خطة ميثاقهم” أن يجتنبوا بعض الأخطاء التي يقع فيها غالبيتهم والتي من أهمها عدم مناصحة المسؤولين، والتفريط في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأخير البيان عن وقت الحاجة المتمثل في إهمال الإفتاء في العديد من القضايا رغم حاجة الناس الملحة له، مما يترك المجال مفتوحا أمام أدعياء العلم ليتخذهم الناس رؤوساً جُهّالاً يفتونهم بغير علم فيَضِلوا ويُضِلّوا.
كما على السادة العلماء أن لا يسقطوا أمام الإكراهات السياسية والاجتماعية في الاجتهاد المتسيب بدعوى تحقيق المصالح المرسلة التي هي في أكثر الحالات آثار مباشرة لمعضلة التناقض المذكور، مما يفرض عليهم الرجوع إلى منهج السلف في التعامل مع مصادر الشريعة سيرا على سبيل المؤمنين الواجب اتباعها بنص القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية، والَّذيْن يتوجب على العلماء أن يقربوهما للناس تقريبا مبنيا على فهم السلف الصالح، وذلك حتى يقوموا بوظائفهم الثلاثة الواردة في صفات العلماء والتي حددها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله: ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”.
الأمر الذي يستلزم إعادة النظر في المفاهيم الغربية التي ابتليت بها الأمة، بعد استيرادها من بيئة فصلت بين الدين والدنيا على مستوى الحكم.
كما يجب على الدولة أن تعمل على ردم الهوة بين المغاربة وعلمائهم، بتوفير كامل الاستقلالية ورفع كل حرج سياسي عنهم.
وأخيرا نتمنى أن يلعب العلماء دورا رائدا في عملية الإصلاح وأن لا تختزل مهمتهم في قيامهم بدور الأداة التي تنفذ ما يتخذه السياسيون من تدابير وقرارات تخضع بالأساس لحسابات سياسية قد يكون للعلماء فيها نظر آخر بصفتهم موقعين عن رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *