الاختلافُ في الرّأي عند العلماء ربيع بن المدني السملالي

الاختلافُ في الرّأي لا يفسدُ للودّ قضيّة عند العلماءِ والعقلاء والنّبغَة وطلبةِ العلم الصّادقين الذين لهم أهدافٌ نبيلة، وصدورٌ سليمة، وغرضهم جَمْع كلمة المسلمين على الحقّ المبين، يبحثون عن ضالتهم المنشودة ولو جاءَت على لسان إنسان أصغر منهم سنًّا وشأنًا، لا يحيدون عنها قِيدَ شَعرة المهم أن تكون بأدلّة لا يتطرّقُ إليها الشّك، ولا يتسرّب إليها الرّيب:
وكلُّهم مِنْ رسول الله مُلتمسٌ…غَرْفًا من البَحرِ أو رشْفًا من الدّيَمِ
أمّا صغارُ النّفوس من المتعصّبة الذين لم يستضيئوا بنور العلم والأدب فإنّ الاختلاف في الرّأي يفسد للودّ عندهم قضايا، كما هو معروف ومشاهد، ولا نحتاج للتّدليل عليه في هذه العُجالة لأنّه أشهر من أن يُذكرَ:
وكيف يصحّ في الأذهان شيء…إذا احتاجَ النّهارُ إلى دليل
(لاسيما في هذا العصر الذي تفاقَمَ فيه الاختلاف تفاقُمًا كبيرًا جدّا، حتّى إنَّ المُتحدّثَ منّا في أيّ مسألة من مسائل العلم لا يَعْدَمُ مخالفًا له، أو ناقِدًا، أو ناقِمًا، أو واضِعًا اسمَ المُتحدّث في (ملفّ) صنّفَ فيه النّاس أصنافًا، ووصمَ كلّ واحد منهم بوصمة تجريح وتشريح.
ولقدَ نتجَ عن هذا التّفاقم الذي وصفته، انحرافٌ متفاقم مثله في الخطّ الأدبيّ اللاّزم لطالب العلم أن يتحلّى به، فصارَ الاختلاف خلافًا وشقاقا).
والخلافُ ليسَ بدعةً من البدع بل (وُجِدَ في أفضل وأتقى وأنقى جيل عرفته البشرية، وهم الصّحابة الكرام، رضوان الله عليهم. وكانَ مُستديمًا بين ورثة الرّسل من العلماء، وهم خيارُ الأمّة وأفضلها، ولكن هذا الخلاف كانَ يُدارُ على نحوٍ يجلِّي الحقّ ولا يفرّق القلوب). كما يقول عبد الوهاب الطريري.
ولعلّ خيرُ مثال (والأمثلة كثيرة) على أنّ الاختلاف عند العلماء والعقلاء من هذه الأمّة لا يفسد للودّ قضيّة ما ذكره الشّيخُ السّدحان في كتابه (معالم في طريق طلب العلم) عن الشّيخ الألباني والشّيخ التّويجري رحمهما الله، فقد كانا مختلفين أشدّ الاختلاف، وفي مسائل كثيرة، لاسيما في مسألة الحجاب والنّقاب التي اشتدّ أوارها بينهما ردحًا من الزّمن، لدرجة أنّ الشّيخ التّويجري ألفّ كتابًا في الرّد على الألباني سمّاه: (السّيفُ المشهور على من أباح السّفور).. كما لا يخفى على من له اهتمام بهذا المجال.. ورغم ذلك كلّه اسمع ما يقول السّدحان عنهما:
جاءَ الشّيخ ناصر الدّين الألباني إلى الرّياض عام 1410هـ فقابلَه الشّيخ حمّود التّويجري في وليمة عشاء عند أحد المشايخ، فقام الشّيخُ حمّود (رحمه الله تعالى) بتوجيه الدّعوة إلى الشّيخ الألباني لزيارته، فقبِلَ دعوتَه، وزارَ الشّيخ ناصرُ الشّيخَ حمودَ في منزله، فكان المجلسُ عجبًا، إذ فيه احترامُ كلّ واحد منهما لصاحبه، وإيثاره عليه، فقد ذهبتِ الخلافات وبقيَ الودّ والإخاء والمحبّة.
ولو ذكرْتَ لأحد النّاس أنَّ الشّيخَ ناصر الدّين زارَ الشّيخ حمود لاستبعدَ ذلك، لما بينهما من الخلاف.
وأخبرَني من حضرَ -وهو أحدُ أولاد الشّيخ حمود- أنَّ من الأمور التي يعجبُ منها الحاضرُ في المجلس، ما حصل من تقدير الشّيخ له، ومن إيثاره بالأكل، وتقديمه الأكل إليه، ومن تشييعه آخر الدّار، مع ما كان بينهما من خلاف. اهـ (ص:111-112).
قلتُ: فانظر رعاكَ الله إلى هذه الأخلاق السّامية التي يتمتّع بها العلماء الصّادقون، والجهابذة المبرّزون، وكأنّ مقولة الإمام الشّافعي نصب أعينهم: (ألا يستقيمُ أن نكونَ إخوانًا وإن لم نتّفق في مسألة؟)..
رحمَهما اللهُ وأكرمَ مثواهما، وكأنَّ الشّاعرَ عناهما بقوله:
ذهبَ الذين إذا غضبتُ تحمّلوا…وإذا جهلتُ عليهم لم يجهلوا
وإذا أصبت غنيمةً فرحــــــــــــوا بها… وإذا بخِلتُ عليهم لم يبخلوا
فهل تجد هذه الأخلاق النّبيلة عند الجَهَلة الذين يناصبونك العداء، ويُضمرون لك الشّر بمجرد الاختلاف معهم في مسألة فرعية الأمر فيها أوسع ممّا يتصوّرون، ولكنّ أكثرهم لا يعلمون، ولو علموا فهم يستكبرون. وما ذلك إلا بسبب حبّ الظّهور الذي يقصم الظّهور، والنّرجسية المفرطة التي تأتي على يابس القلوب وأخضرها فتحول بينهم وبين قبول الحقّ الذي من الواجب أن ينقادَ له المرء إذا ما لاح وميضه في سماء الخلاف.
وقوعُ الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقِوى إدراكهم ولكنَّ المذمومَ بغيُ بعضهم على بعض وعدوانه. كما يقول ابن القيّم في إعلام الموقّعين.
يقول الشيخ ابن بيه: وقد انتشرَ الاختلاف في الأمّة أفقيًا وعَمودياً في كلّ الفئات وعلى مختلف المستويات. تعدّدت أسبابُه وتنوّعت ألوانُه واستُعلمتْ فيه كلُّ الوسائل من تكفير وتفسيق وتبديع وتشويه وتسفيه وما شئتَ من مصدر على وزن تفعيل.
قال تعالى: {ولا يزالونَ مختلفينَ إلاّ من رحم ربّك} أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مِلَلِهم ونِحلهم ومذاهبهم وآرائهم.. إلاّ المرحومين من أتباع الرّسل، الّذين تمسّكوا بما أمروا به من دين. [ابن كثير].
ولله درّ العلاّمة الأصولي الطّاهر ابن عاشور حين قال في تفسيره التّحرير والتّنوير عندَ تعرّضه لهذه الآية:
الحكمةُ التي أقيمَ عليها نظامُ هذا العالم اقتضتْ أن يكونَ نظامُ عقولِ البشرِ قابلاً للتّطوح بهم في مسلك الضّلالة أو في مسلك الهُدى على مبلغ استقامة التفكير والنّظر، والسّلامة من حجب الضلالة، وأنَّ الله تعالى لمّا خلقَ العقولَ صالحةً لذلك جعلَ منها قَبول الحقّ بحسب الفطرةِ التي هي سلامة العقول من عوارضِ الجهالة والضّلال وهي الفطرةُ الكاملةُ المشارُ إليها بقوله تعالى (كانَ النّاسُ أمّةً واحدةً).. لم يدخرهم إرشادًا أو نصحًا بواسطة الرّسل ودُعاة الخير وملقّنيه من أتباع الرّسل، وهم أولوا البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض، فمن النّاس مهتدٍ وكثير منهم فاسقون ولو شاء لخلقَ العقولَ البشرية على إلهام متّحد لا تعدوه كما خلقَ إدراكَ الحيواناتِ العجم على نظام لا تتخطّاه من أوّل النشأة إلى انقضاء العالم، فنجد حال البعير والشّاة في زمن آدم (عليه السّلام )كحالهما في زماننا هذا، وكذلك يكون إلى انقراض العالم، فلا شكّ أن حكمةَ الله اقتضت هذا النّظامَ في العقل الإنساني لأنّ ذلك أوفى بإقامة مراد الله تعالى من مساعي البشر في هذه الحياة الدّنيا الزّائلة المخلوطة، لينتقلوا منها إلى عالم الحياة الأبدية الخالصة، إن خيرًا فخير وإن شرّا فشرّ. فلو خُلِقَ الإنسان كذلك لما كان العملُ الصّالح مقتضيًا ثوابَ النّعيم ولا كانَ الفسادُ مقتضيا عقابَ الجحيم. فلاَ جرَمَ أنّ اللهَ خلقَ البشرَ على نظام من شأنه جريان الاختلاف بينهم في الأمور.
ومنها أمر الصّلاح والفساد في الأرض وهو أهمّها وأعظمُها ليتفاوت النّاس في مدارج الارتقاء، ويسموا إلى مراتب الزّلفى فتتميز أفرادُ هذا النوع في كلّ أنحاء الحياة حتى يُعَدَّ الواحدُ بألف ليميز الله الخبيث من الطيب.
قال ربيع: فافهم أخي القارئ هذا الكلام الذي جادت به قريحة هذا العالِم الفذّ، وتدبّره فإنّه في غاية الأهمية، وهو كافٍ بحول الله لاستيعاب الحكمة الرّبانية من هذه الخلافات التي كانت ومازالت وستظلّ إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية القِدح المُعّلى في هذا الباب، لذلك أرى من المفيد أن أختم مقالتي ببعض أقواله ومواقفه التي تستحق أن تُدرسَ في المجامع والمحافل والمناسبات، وللأمانة فقد ذكرها الشّيخ الفاضل الدّكتور محمد بن إبراهيم الحمد في كتابه الرّائع (ومضات ص:264-265):
– إنّ ابنَ تيمية غالبًا ما يدعو لمخالفيه كما في قوله: والله هو المسؤول أن يؤلّفَ بين قلوبنا وقلوبكم، ويصلح ذاتَ بيننا، ويهدينا سبلَ السّلام، ويخرجنا من الظّلمات إلى النّور، والمقصود الأكبرُ إنّما هو إصلاح ذات بينكم، وتأليف قُلوبكم.
– لمّا أرادَ السّلطانُ النّاصر في زمن ابن تيمية حمله على الموافقة على قتل من عارضه وخالفه من القُضاة، واستفتى ابن تيمية في ذلك فقال له: (إذا قتلتَ هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم). فقالَ له: إنّهم قد آذوكَ، وأرادوا قتلكَ مرارًا. ففهم الشّيخ مراده، وقال له: (من آذاني فهو في حلّ، ومن آذى اللهَ ورسولَه فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصرُ لنفسي). ومازالَ به حتّى حلم عنهم السّلطان وصفح.
– الواجبُ على المسلم إذا صارَ في مدينة من مدائن المسلمين أن يُصليَ معهم الجمعةَ والجماعةَ ويوالي المؤمنين ولا يُعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاّ أو غاويًا وأمكن ان يهديَه ويرشده فعل ذلك، وإلاّ فلا يكلّف الله نفسًا إلاّ وُسعها.
– إنّه أفتى بأنّ من دُعيَ إلى طعام واشتُبِهَ أمرُه عليه: فلا بأس بتناول اليسير منه إذا كان فيه مصلحة راجحة، مثل تأليف القلوب، ونحو ذلك.
– أنّه يُستحبّ للرّجلِ أن يقصِدَ إلى تأليف القلوب بترك بعض المستحبّات، لأنّ مصلحة التّأليف في الدّين أعظم من مصلحة فعل مثل ذلك، والأولى متابعة الآثار التي فيها الاعتدالُ والائتلافُ وتأليف القلوب، فيجهر بالبسملة لمصلحة الائتلاف، ويعدِل عن فصل الوِتر إلى وصله مراعاة لذلك، كما استحبّ الإمامُ أحمدُ تركَ القنوت في الوتر، تأليفًا للمأموم. بل إنَّ ابنَ تيمية يعدّ التّعصّب لمسألة البسملة في كونها آية من القرآن وفي قراءتها من شعائر الفُرقة والاختلاف الذي نهينا عنه، فإنَّ الفسادَ النّاشئ من هذه الفُرْقة أضعاف الشّر النّاشئ من خطأ نفر قليل في مسألة فرعية.
علّق الدّكتور إبراهيم الحمد قائلاً: هذه نبذة يسيرة عن بعض أقوال ابن تيمية ومواقفه في تأليف القلوب واجتماع الكلمة، فما أحوجَنا إلى أصحاب قلوب تنبض بالحبّ للمسلمين، وتعمل ما في وسعها للمّ شملهم، وتقريب بعيدهم، وإرشاد ضالّهم.
ولا يتسنّى ذلك -بعد توفيق الله- إلاّ بالعلم، والصّبر، والتّقوى، وسلامة المقاصد، والتّخلي عن حظوظ النّفس القريبة، والنّظر في المصالح العُليا العامّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *