الظلاميون والرجعيون، الأقدمون والجدد عبد القادر دغوتي

يطيب للعلمانيين والليبراليين والحداثيين وغيرهم من المتغربين أن يصفوا خصومهم من “الإسلاميين” وممن يدعون إلى تطبيق شريعة الإسلام، بالظلاميين والرجعيين والماضويين وغيرها من النعوت والأوصاف. فلنتعرف على بعض معاني هذه الألفاظ، ولننظر من الأحق بها وبأن يوصف بها.
أولا: في تحديد المفاهيم
أ ـ الظلاميون
جمع ظلامي، نسبة إلى الظلام، والمقصود به كل من يعيش في الظلام، ويمشي في الظلام، لا يتبين موطئ قدميه ولا يهتدي إلى الحق والصواب.
وليس ذلك لانعدام النور، ولكن لحيدته عنه وإيثاره الظلمة لمرض في نفسه، كما كان قوم نوح عليه السلام، إذ كان كلما لاح لهم شعاع من نور يكشف لهم الأشياء على حقيقتها؛ انزووا عنه وسدوا دونه كل منفذ ينفذ من خلاله إلى قلوبهم وعقولهم، و”جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا استِكْبَارا” (نوح).
ب ـ الرجعيون
جمع رجعي، من الرجوع، بمعنى العودة والرجوع إلى الخلف والوراء، ويُطلق في سياق الذم على كل من ينادي بالرجوع إلى قيم ومعتقدات الأسلاف في الزمن الماضي…
وليس مطلق الرجوع مذموم؛ فإن بعضه يكون أساسا للتقدم والانطلاق إلى الأمام، وإنما المذموم منه هو الرجوع إلى الخطإ بعد تبين الصواب، والرجوع إلى الفساد بعد الصلاح، وإلى الضلال بعد الهدى، وإلى العبودية والتذلل لغير الخالق سبحانه بعد التحرر والعزة…

ثانيا: من هم الظلاميون والرجعيون؟
أ ـ الظلاميون: وهم قسمان، الظلاميون الأقدمون والظلاميون الجدد.
* الظلاميون الأقدمون:
وهم فئات الكفار والمشركين الذين جحدوا الله تعالى، وكفروا بالرسالات السماوية بعد أن استيقنتها أنفُسُهم.
وإنما كفروا لأنهم يحبون ويعشقون الظلام. والرسالات السماوية هي المشكاة التي ينبعث منها النور الذي يبصر به الناس طريقهم في شعاب الحياة، وتتبين لهم به غايتهم التي خُلقوا لأجلها، وتنكشف لهم به الأشياء على حقيقتها؛ فيرونها على أحجامها وأشكالها وأوزانها الحقيقية. قال الله تعالى: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (النور35)، وقال جل وعلا: “كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ” (إبراهيم1)، وقال سبحانه: “هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ” (الحديد9).
وإن أولئك الظلاميين كانوا يتزيون بأزياء الأبهة والعظمة والعلو، وهي أزياء كذب وخداع يخفون بها جهلهم وضعفهم وذلهم ومهانتهم، ثم يصوَرون أنفسهم للناس أنهم أصحاب عزة وبأس وقوة وأن بأيديهم الضر والنفع والمنع والعطاء ومصاير البلاد والعباد، فكان خطابهم لا يخرج عن مثل هذه التعليمات أو التهديدات التي نقلها القرآن الكريم: “وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي” (القصص 38) “فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى” (النازعات 24) “قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ” (البقرة258).
وغايتهم من ذلك هي خداع الناس وامتلاك رقابهم بالأوهام الظلامية، ومص دمائهم وأخذ أموالهم…
وكان أولئك الظلاميون يدركون أن ذلك النور الساطع “نور الرسالات السماوية” سيفضحهم، ويكشف حقيقة أمرهم، ويُظهرهم للناس على أحجامهم الحقيقية، ويُزيل الوهم والغشاوة عن أعين الناس ويحررهم من قبضتهم؛ فتضيع مصالحم ويخسرون امتيازاتهم…
فما كان لهم إلا أن يقفوا معاندين صادين الناس عن هذا النور، جادين في إطفائه وإخماده. فهل يستطيع أولئك الأقزام المنتفخين بالوهم والباطل أن يطفئوا نور الله ؟!
لقد باؤوا بالفشل فيما يحاولون، لكن ما تقبلوا الحقيقة، فتمادوا في غيهم، وكثَفوا الحُجُب على أبصارهم وأسماعهم حتى لا يبصروا النور، فعاشوا في الظلام وهلكوا، قال الله تعالى: “أوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (الأنعام122).
*الظلاميون الجدد:
أما الظلاميون الجدد، فهم طوائف وفئات كثيرة، منها فئات العلمانيين والليبراليين والماركسيين وغيرهم من بني جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا، ويعيشون بأجسادهم في أوطاننا الإسلامية بينما تحوم قلوبهم وعقولهم حول أطلال الأفكار والقيم المادية الغربية والشرقية.
وهؤلاء -كالأقدمين- تُحركهم مصالحهم ومطامعهم المادية الدنيوية، فقد مُدت أيديهم إلى أموال الشعوب فسلبوا ونهبوا، وسفكوا في سبيل ذلك الدماء البريئة، وهتكوا الأعراض، وسجنوا الأحرار…
وهم ـكالأقدمين أيضاـ يُقدَمون أنفسهم للناس على غير حقيقتهم، ويُخفون أنيابهم وتقاسيم الشر والمكر في وجوههم تحت أقنعة شتى، ويُوهمون الناس بمزيج من الطلاسم والشعارات: كالديمقراطية، والتقدمية، والحداثة، والحرية…إلخ.
وهم يعلمون أن نور الإسلام عقيدة وشريعة سيكشفهم ويفضحهم؛ فقاموا ينفثون وينفخون يريدون إطفاءه، فحاربوا الدعاة والمصلحين وكل من يبين للناس بالدليل والبرهان أن الالتزام بالإسلام كليَة عقيدة وشريعة هو أساس السعادة في المعاش والمعاد.
ومن مكرهم وخداعهم، أنَهم يُلبَسون على الناس بتأويلات ومقولات ظلامية، يريدون بها التشويش على ذلك النور الخالد. ومن ذلك مثلا طعنهم في السنة والدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن، وقولهم أن الإسلام لا علاقة له بتنظيم شؤون الحياة، أو أن شريعته لم تعد صالحة للناس في هذا الزمان، وقولهم بفصل الدين عن الدولة، وأنه لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، وأنه ينبغي إبعاد الدين عن السياسة حفاظا على هيبته –بزعمهم- حتى لا يتلطخ بأدرانها وأوساخها…إلخ.
وقد خُدع الناس بهؤلاء وبشعاراتهم ردحا من الزمن، لكن أبى الله إلا أن يفضحهم، وأن يفضحوا أنفسهم بأنفسهم، فكُشفت حقيقتُهم.
فقد بشَروا بالديمقراطية، وتداول السلطة عن طريق الانتخابات النزيهة واحترام إرادة الشعوب في اختيار من يحكمها؛ لكنهم كفروا بنتائجها وانقلبوا عليها لما جاءت ب”الإسلاميين” وتكلموا باسم الشعوب وقدموا لها أنفسهم أنهم حماتها ومحاميها ومُخلَصيها ومحرريها؛ لكنهم غدروا بها فحرضوا عليها القوى المستبدة والأنظمة الديكتاتورية لقمعها، ورفعوا شعار الحرية وصدعوا بها رؤوس الناس، لكنهم حاصروا المتدينين وحاربوا مظاهر التدين مثل الحجاب والنقاب وإعفاء اللحى. وادعوا حرية الرأي والتعبير؛ فاتخذوها ذريعة لسب الدين والمس بالمقدسات الإسلامية، وحاربوا كل ما يُشم منه رائحة الإسلام. ونادوا بحرية الإعلام والصحافة؛ فسجنوا الصحافيين الأحرار وأغلقوا قنواتهم…
فهل بقي شيء لأولئك الظلاميين يخدعون به العباد، أو يمنعون به عنهم النور ويبقوهم في الظلام؟!
ـــ من أوصاف الظلاميين في القرآن الكريم
*العمى: قال الله تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ” (الرعد 16).
*الموت: قال تعالى: ” أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا” (الأنعام122).
*الصمم والبكم: قال تعالى: “وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ” (الأنعام39).

ب ـ الرجعيون:
وهم -كما ذكرنا- الذين يصرون على الرجوع إلى الآفات والمفاسد التي كانت فيمن سبقهم. وهؤلاء الرجعيون قسمان:
*الرجعيون الأقدمون:
وهؤلاء كانوا يرفضون دعوة التوحيد التي أُرسل بها الأنبياء والرسل، والتعاليم الربانية التي نزَلها الله إليهم ليحرروا عقول الناس من الأوهام والخرافات، ورقابهم من الذل والاستعباد، ويحفظوا عليهم نعمة التكريم والتفضيل التي تفضل الله بها عليهم كما قال جل وعلا: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً” (الإسراء70).
لكن أولئك الرجعيين كانوا يتمسكون بالضلالات التي كان عليها أباؤهم وأسلافهم، فكانت هي مرجعهم كما جاء في القرآن الكريم: “وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا” (الأعراف28)…

*الرجعيون الجدد:
وهم فئات العلمانيين والحداثيين في أوطاننا الإسلامية، وهؤلاء رجعيتهم موغلة في القِدم، فهم يرجعون إلى حِقب تاريخية قديمة، فينبشون فيها عن الآفات والمفاسد الأخلاقية التي ماتت وأُقبرت بفضل دعوات الأنبياء والرسل، فيشرعون في تجميع فتاتها وترميمها وإعادة إخراجها في صُور ملونة ويجعلون لها أسماء وأوصافا منمقة لترويجها في سوق الرجعية الأخلاقية المعاصرة.
ــــ فقد عملوا مثلا على إحياء اللواط، تلك الفاحشة التي عُرف بها قوم لوط، وقد نهاهم عنها نبيهم عليه الصلاة والسلام وأنذرهم سوء العذاب، ومدَ لهم يده ليخرجهم من نتن ذلك المستنقع إلى باحة الطهارة، لكنهم أصروا على ما هم فيه حتى أتاهم الهلاك، قال الله تعالى: “كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ، قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ، قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ، رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ، فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ” (الشعراء160 ـ 173)
وبعد هلاكهم جاء اليوم خلفُهُم من الرجعيين الجدد يُحيون سُنة اللواطيين وسيرتهم الأولى ويُحدثُون لها أسماء “حداثية” معاصرة؛ فيسمونها “المثلية” أو ما شابه ذلك من أسماء تشترك كلها في معاني الخبث والدناءة والبذاءة، وإنما العبرة بالمعاني لا بالمباني.
ــــ وعملوا أيضا على إقرار “الزنا”، واعتبارها مجرد ممارسة لحق من الحقوق الفردية المقدسة في شريعة الحداثيين، مادام أنها تُمارس في حدود الوفاق والتراضي. ومن ثم فلا حرج -عند هؤلاء الرجعيين- من إقرارها في زوجاتهم وبناتهم وخالاتهم وعماتهم وأهليهم.
ولا أدري إلى أي واد سحيق تعود أصول هذه الرجعية المتطرفة المتنطعة؟!
ــــ ويعملون أيضا على إحياء ثقافة العُري والتبرج والسفور، واعتبارها مظهرا من مظاهر التقدم والتمدن، وما هي إلا تخلف وتدحرج إلى الجاهلية الأولى، كما قال الحق سبحانه وتعالى: “وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ” (الأحزاب33)
بل إن عبقرية الرجعيين الجدد قد أوصلتهم -في إطار سعيهم الدؤوب لتجديد وتحديث ثقافة التعري- إلى إدماج التعري ضمن أشكال الاحتجاج المعاصرة والحديثة، واعتبار ذلك –طبعا- صورة من صور حرية التعبير التي يجب أن يتمتع بها كل فرد. فيحق لكل محتج أو مطالب بحق أو بباطل من ذكر أو أنثى، أن يعبَر عن احتجاجه بخلع ملابسه ويقف أمام الملأ كيوم ولدته أمه…!!!
خاتمة
إن كل خروج عن شرع الله تعالى إلى ما دونه من شرائع البشر؛ لهو خروج من النور إلى الظلمات، وحيدة عن طريق الهدى والرشاد إلى سُبُل التخلف والضلال. فالظلاميون الرجعيون هم أولئك الذين يبغون عن شرع الله بديلا، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. فنعوذ بالله من الظلامية والرجعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *