رسالة المسجد بين الماضي والحاضر ومقترحات لإحيائها
2/2
عـبد الـعـزيـز وصـفـي
Madhabmaliki100@gmail.com
ومن ضمن المقترحات لتفعيل دور المسجد في عصرنا الحالي:
7- جمع وتوزيع الزكاة والتبرعات والصدقات للمحتاجين:
ربط الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم النشاط الاقتصادي بالمسجد أيضاً. وهذا يعني: أن الناس عندما كانوا ينظرون إلى المسجد كانوا لا يشاهدونه مركزاً للعبادة فقط بل مركزاً لحل المسائل الاقتصادية أيضاً، لذلك كان رسول الله يقوم بجمع وتوزيع الزكاة عن طريق المسجد.
والمقصود: هو الدعم المالي المتواصل للمحتاجين من الأسر الفقيرة القاطنة بالحي، ولدعم المشاريع الخيرية أو لقضايا المسلمين، وكان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوة إلى الدعم المالي للكيان المسلم في المسجد، كما في دعوته للإنفاق في غزوة تبوك، ودعوته للتبرع حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار، وكان إذا جاءه مال الغنيمة أو الفيء، نثره في المسجد يقسمه بين الناس، وبوّب على ذلك الإمام البخاري فقال: باب القسمة وتعليق القِنْوِ في المسجد، قال ابن رجب: «المقصود بهذا الباب: أن المسجد يجوز أن يوضع فيه أموال الفيء، وخُمْس الغنيمة، وأموال الصدقة، ونحوها من أموال الله التي تقسم بين مستحقيها»، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يأخذون صدقاتهم إلى المسجد لعلهم يجدون من يأخذها منهم من فقراء المسلمين كما في قصة يزيد بن الأخنس -رضي الله عنه- حين أخذ صدقته إلى المسجد ليتصدق بها.
فهذه نماذج تدل على مكانة المسجد، ودوره في تدعيم الجانب الاقتصادي للمسلمين، وأن الصدقات والتبرعات وما شابهها كانت تنطلق منه.
8- بناء المساجد وتشييدها:
والنصوص الدالة على فضل بناء المساجد كثيرة، من أشهرها حديث عثمان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من بنى مسجداً لله يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة»، وفي رواية «..بنى الله له مثله في الجنة». أبو داود (449) وابن ماجه (739) وغيرهما.
وإن التوسع العمراني في المدن من أهم الدواعي في الإكثار من بناء المساجد وتشييدها، فينبغي حث أهل الغنى والجِدَة على بناء المساجد خصوصاً في المناطق النائية، أو المجمعات السكنية التي يقطنها أعداد كبيرة من المسلمين، وكذلك الشركات التجارية الضخمة، التي يرتادها مئات الموظفين يومياً.
ومن أهم المحاذير المتعلقة بتشييد المساجد والتي ينبغي الحذر منها: الإسراف والتبذير في البناء ومتعلقاته، ومن أبرز مظاهر التبذير التي قلّ أن يخلو منها مسجد: الزخرفة والتزيين؛ ففيها إضاعة لأموال المسلمين فيما لا فائدة فيه، بالإضافة إلى إشغال المصلي عن صلاته التي هي سبب وجود المسجد، والأَوْلى صرف مثل هذه الأموال في ما يتطلبه المسجد من حاجات بعد البناء كترميمه، أو تنظيفه، أو نحو ذلك.
9- عمارة المسجد الحسّية:
لا شك أن الاهتمام بعمارة المسجد الحِسِّية من شعائر الله التي أمرنا بتعظيمها.
قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور:36)، قال قتادة: هي هذه المساجد أمر اللّه سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها. وفسر مجاهد رفعها ببنائها: فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسات والأذى تفسير ابن سعدي: سورة النور36.
ومما يدخل في الاهتمام بالعمارة الحسية للمساجد العناية بتنظيفها وتطييبها بين فينة وأخرى؛ إذ المساجد هي أحب البقاع إلى الله جل وعلا[31]؛ فهي أوْلى بالتنظيف والرعاية من غيرها.
ومن ذلك أيضاً: أن لا يأتيها الإنسان وهو متلبس برائحة كريهة تصدر من جسمه أو ثوبه أو فمه تتأذى بها ملائكة الرحمن، ويتأذى إخوانه المصلون؛ ففي الحديث : «من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يأتينّ المساجد»، وبيّن في حديث آخر علة هذا النهي المتمثلة في إيذاء الملائكة وبني آدم من هذه الروائح[34].
والأحاديث والآثار الواردة في الأمر بتنظيف المساجد وتطييبها كثيرة، ويتأكد هذا الأمر في حال اجتماع الناس أوقات الصلاة، أو يوم الجمعة، أو في رمضان، ونحوها من المناسبات.
كما ينبغي توفير وسائل الراحة لرواد بيت الله كبرادات مياه الشرب، وأجهزة التكييف خصوصاً أثناء فترة الصيف في البلاد الحارة خاصة، وكذلك السخانات الكهربائية وأجهزة التدفئة في فترة الشتاء، وأدوات التنظيف والكنس الحديثة، وغيرها من نِعَم الله التي أنعم بها علينا، والتي لم تكن متوفرة إلى عهد قريب، بل ولا تزال كثير من مساجد الله خالية منها؛ فقد كان الخدَم في سالف العهد، يُكلّفون بتنظيف المسجد، وكنسه بأيديهم، وبوّب الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب الخدَم للمسجد، وذكر حديث المرأة السوداء التي كانت تقمُّ مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي بعض طرق الحديث أنها كانت تلتقط العيدان والخرق بيديها.
9- الاهتمام بمصليات النساء:
ويشمله كل ما يشمل مصلى الرجال، مع مراعاة الفوارق الشرعية؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يهتم بشأن النساء في المسجد، فأذن لهن في الحضور إلى المسجد، ونهى عن منعهن من ذلك، مع إشارته إلى أن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد.
ومع إذن الشارع الحكيم للنساء بشهود جماعة المسلمين بالمسجد إلا أنه حدّ حدوداً لا ينبغي تجاوزها، ومن تلك الحدود منع النساء من حضورهن متزينات متعطرات، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «وليخرجن تَفِلات»، أي: أي غير متعطرات. وفصلهن عن صفوف الرجال درءً لوقوع ما لا تحمد عواقبه، وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- تخصيص يوم للنساء يعظهن فيه ويذكِّرهن.
ومما يؤسف له أن الكثير من المساجد لا تعطي مصليات النساء أهمية كبيرة؛ فمن المساجد ما لا يوجد فيه مكان خاص للنساء أصلاً فضلاً عن أن يُهتم به، ومن المساجد ما لا تعير مصلى النساء اهتماماً، من حيث تنظيفه وتطييبه، بل تجده مهجوراً، وكأنه ليس تابعاً للمسجد، ومن مصليات النساء ما لا يُفتح إلا أياماً محددة كالجمعة من الأسبوع أو رمضان من السنة فحسب؛ وكأن النساء لسن شقائق الرجال كما جاء في الحديث.
10- مكتبة المسجد:
إن إنشاء مكتبة للاستعارة والمطالعة بداخل المسجد تحت إشراف طلبة العلم المميزين، أو بجانبه، من مستلزمات إقامة الدروس العلمية، والدورات الشرعية، التي سبقت الإشارة إليها، فلا شك أن طلبة العلم الذين يفترض حضورهم للمسجد، من أجل الدروس والمحاضرات، سيحتاج أكثرهم لشيء من الكتب والمراجع الموثوقة، ويحذر من كتب المبتدعة وأهل الضلال.
– ويجب تشجيع أهل المسجد ورواده على زيارة المكتبة، وحثهم على القراءة؛ إذ هي الغاية من وجود المكتبة.
– تحديد أوقات معلومة لفتح المكتبة وإغلاقها، ووضع نظام للاستعارة، وكذلك الإعلان عن كل مادة جديدة في المكتبة من كتب وأشرطة كاسيت وأقراص حاسوبية ونحوها .
11- تعيين أئمة وخطباء من أهل العلم والإصلاح:
إن كل ما ذكر من وسائل لتفعيل دور المسجد متوقف على طبيعة القائمين على بيوت الله، ويأتي في أولهم إمام المسجد وخطيبه، وكذلك مؤذنه، والأصل في هذه الوسيلة هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله..»، ففيه بيان أهمية هذه الولاية، وأنه ليس كل أحد أحق بها، وأكثر كتب الحديث وكتب الفقه تحدثت عن الإمامة والخطابة والأذان في أبواب خاصة، حيث يتم ذكر الصفات الواجب توفرها في كل من إمام المسجد، وخطيبه ومؤذنه، بل أُفرِدَ هذا الأمر بالتصنيف في كتب مستقلة لأهمية الدور المنوط بهؤلاء القائمين على بيوت الله.
يقول الشيخ خير الدين: «ولا يمكن للمسجد أن يقاوم السينما والمدارس التبشيرية واللادينية إلا إذا كان المسؤولون عنه ذوي مستوى عالٍ من الثقافة الإسلامية والنخوة الإسلامية والوعي الإسلامي، وإلا إذا حرصت وزارات الأوقاف الإسلامية على العناية بإعداد هؤلاء المسؤولين وكلما كان المسؤولون عن المسجد محتسبين لوجه الله كانت الفائدة منهم أكبر» المسجد في الإسلام، لخير الدين وانلي.
ولعل من الأساليب الحديثة في إعداد مسؤولي المساجد، عقد الدورات التدريبية لهم خصوصاً للأئمة منهم بهدف تعليمهم ما قد يجهلونه من أحكام تخص المسجد وتنمية معارفهم، وهذا التثقيف والتحصيل من متطلبات الولاية التي تقلدوها، وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه؛ إذ كيف نرجو قيام المسجد برسالته، وبدوره الفعال، والقائمون على المسجد من أجهل الناس، وأدناهم ثقافة ووعياً؟ ولعل من أحسن الأمثلة الدالة على الثمرة اليانعة من تطبيق هذه الوسيلة، ما ذكره الشيخ محمد لطفي الصباغ من قيامه في فترة شبابه أثناء دراسته النظامية بجامعة دمشق -الجامعة السورية قديماً- قيامه مع عدد من إخوانه الصالحين بإعادة مسجد الجامعة الذي حولته القوات الفرنسية إلى “بار”، ومن ثم إلى مستودع، أعادوه إلى ما كان عليه قبل دخول الفرنسيين، ثم قاموا بتشكيل لجنة تُعنى بالمسجد وأموره، فنظموا البرامج التوعوية والأنشطة العلمية، في فترة عصيبة كانت بلاد الشام تعيش بين نارين: التيارات الفكرية المنحرفة والطرق الصوفية المبتدعة، فاستضافوا أهل العلم لإلقاء الكلمات والمحاضرات بالمسجد، كالشيخ مصطفى السباعي والشيخ مصطفى الزرقا، وراسلوا العلماء للإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم، ولا سيما تلك التي تتعلق بالسنن والبدع، فراسلوا الشيخ الألباني للإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم. يقول الألباني في مقدمة رسالته (الأجوبة النافعة عن أسئلة مسجد الجامعة) متحدثاً عن ذلك المسجد مثنياً على لجنته.
12- تفعيل دور الأوقاف:
من أهم مزايا الوقف في الشريعة الإسلامية أنه مستمر لا ينقطع ودائم لا يتوقف، وبهذا يتم الحفاظ على حياة الجهات التي أوقف عليها، وتاريخ الإسلام حافل منذ القدم على الوقف في وجوه البر المختلفة من مساجد ودور علم ومدارس ومستشفيات ورعاية أيتام وغيرها، حتى أصبح هناك ديوان في عصر الأيوبيين والمماليك خاص لأوقاف المساجد، وكان كثير من الصحابة والتابعين من الحكام والمحكومين يحبسون يوقفون ما يقدرون عليه من أموالهم في سبيل الله، وإذا كان العلماء اختلفوا في مشروعية الوقف على أمور معينة فقد اتفقوا على مشروعية الوقف على المساجد ودور العبادة.
والواجب على أهل المسجد تفعيل دور الأوقاف كوسيلة لإحياء رسالة المسجد من ناحيتين:
الأولى: نشر ثقافة الوقف على المساجد، وما يتعلق بها من دروس علمية، وحلقات لتحفيظ القرآن، ومكتبات ونحوها، وتوعية الناس بها وحثهم على ذلك.
الثانية: العناية بأوقاف المساجد، والاهتمام بها، والحرص عليها من عبث العابثين؛ فإن الكثير من أوقاف المساجد لا يَرجِع رَيْعُها إلى المساجد، وإن عاد من ذلك شيء فهو نزر يسير جداً، لأن جُلّ هذه الأوقاف قد اندرست أو اغتُصبت، فإذا حرص القائمون على المسجد بالاعتناء بأوقاف المسجد، وضمان أن تعود ثمرة الوقف إلى المسجد، لا إلى جهات أخرى، فإن ذلك سوف يسهم في تأدية المسجد لدوره في الحياة.
13- : اللقاءات مع أهل الحي:
إن قيام المسجد بأنشطة مختلفة: علمية ودعوية واجتماعية وثقافية وغيرها يتطلب تقييماً لمثل هذه الأنشطة بين فترة وأخرى؛ لأنها تبقى أولاً وأخيراً أعمالاً بشرية، يعتريها النقص ويكتنفها الخلل، ومن أحسن الأساليب لعمل مثل ذلك التقييم، عقد لقاء دوري يجمع أهل الحي بإمام المسجد أو من ينوب عنه، لمراجعة أحوال المسجد وشؤونه.
ومن فوائد مثل هذا اللقاء ما يلي:
– سد أي خلل أو نقص فيما يتعلق بشؤون المسجد عموماً ولا سيما الأنشطة سالفة الذكر.
– الاستفادة من مقترحات أهل الحي وآرائهم.
– تشجيع المبادرات المتميزة بالمسجد ومكافأة من يقوم بها.
– الاطلاع على أنشطة وبرامج المساجد الأخرى للاستفادة منها.
والله نسأل الله التوفيق والسداد والنجاح، وأن ينفع بهذه الوسائل قارئها والعاملين عليها والمشاركين في قيامها ابتغاء مرضاة الله.