اذا الموءودة سُئلتْ ربيع السملالي

قالت فدوى طوقان في سيرتها الذّاتية “رحلة جبلية / رحلة صعبة” (ص:12):

خرجتُ من ظُلمات المجهول إلى عالم غير مستعدّ لتقبّلي.

أمّي حاولت التّخلّص منّي في الشّهور الأولى من حملها بي.

حاولتْ وكرّرتْ المحاولة. ولكنّها فشلت..

قلتُ: وهذه جاهلية جديدة في عصرنا الحاضر، لكن الفرق أنّ بعض النّساء اليوم هنّ من يمارسن الوأد على البنات، أو يحدّثن أنفسهن بذلك، وليس الرّجال كما في الزّمن الجاهلي القديم، الذي قال عنه الله تعالى: {إذا الموءودة سُئلت بأي ذنب قُتلت} [التكوير:8]. وقال سبحانه:{وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التّراب؟ ألا ساء ما يحكمون }. [النحل:58-59].

وقالت الأديبة د. فوزية العشماوي في سيرتها الذّاتية (أمواجُ العمر بينَ بحر إسكندرية وبحيرة جنيف) ص22:

حين سمعت أمّي أولى صرخاتي وتأكّدت من القابلة أنّها وضعتْ أنثى قالت لها بصوتٍ مبحوح من أثر الصّراخ حين المخاض: (سَيّبي سرّتها).

سمع أبي من وراء باب الغرفة أولى صرخاتي، ففتح الباب وسمع الحكم بالإعدام الذي أصدرته عليّ أمي قبلَ أن تراني.

قال الرّجل الطّيب للقابلة: إيّاكِ أن تمسّي البنت بسوء.. واقتربَ من فراش الوالدة الباكية من سوء ما بُشّرت به، وقال لها بصوت اجتهد أن يجعله متسامحًا (حمدًا لله على سلامتك).

نظرت إليه المرأة المخذولة بخلفتها للبنات وقالت بانكسار: بنت ثالثة يا سي عبده، لماذا يا رب.

أجابها بانفعال: كلّ ما يأتي من ربّنا (كويس) وله في ذلك حكم، ومن يدري فلعلّ الخير في قدومها. اهـ بتصرّف

قال سيّد قطب رحمه الله (في ظلال القرآن ج 6 ص3839):

وقد كان من هوان النّفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرتْ عادةُ وأد البنات خوفَ العار أو خوفَ الفقر، وحكى القرآن عن هذه العادة ما يُسجّل هذه الشّناعةَ على الجاهلية، التي جاء الإسلام ليرفع العربَ من وهدتها، ويرفع البشرية كلّها.

………………………………………

وكان الوأدُ يتمّ بصورة قاسية، إذ كانت البنتُ تُدفنُ حيّة..

وكانوا يفتنون في هذا بشتى الطرق. فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السّادسة من عمرها، ثم يقول لأمها: طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ! وقد حفر لها بئرًا في الصحراء، فيبلغ بها البئر، فيقول لها: انظري فيها. ثم يدفعها دفعا ويهيل التراب عليها ! وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة. فإذا كان المولود بنتا رمت بها فيها وردمتها. وإن كان ابنا قامت به معها ! وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي، فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله.

قال ربيع: يا الله ألهذه الدّرجة كانت الإنسانية منحطّة غارقة في الضّياع، فالحمد لله على نعمة الإسلام.

فهذه كانت نظرة الجاهلية إلى المرأة على كل حال. حتى جاء الإسلام. يشنع بهذه العادات ويقبحها. وينهى عن الوأد ويغلظ فعلته. ويجعلها موضوعا من موضوعات الحساب يوم القيامة. يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج، كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام. ويقول: إن الموءودة ستسأل عن وأدها.. فكيف بوائدها؟

وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبدا، لولا أن تتنزّل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلِّها، وفي تكريم الإنسان: الذّكر والأنثى، وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى. فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام، لا من أي عامل من عوامل البيئة.

وحين تحقق ميلاد الإنسان الجديد باستمداد القيم التي يتعامل بها من السماء لا من الأرض، تحققت للمرأة الكرامة، فلم يعد لضعفها وتكاليف حياتها المادية على أهلها وزن في تقويمها وتقديرها. لأن هذه ليست من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها. إنما الوزن للروح الإنساني الكريم المتصل بالله. وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى. كما يقول سيّد قطب رحمه الله.

وفي كتب الأدب أنّ بعض العرب حين وضعت امرأته أنثى هجر البيت الذي فيه المرأة فقالت:

ما لأبي حمزة لا يأتينا

يظل في البيت الذي يلينا

غضبان ألا نلد البنينا

وإنما نأخذ ما أعطينا

يقول الأديب عبد الكريم الخطيب في كتابه (التّفسير القرآني للقرآن ج 16 ص 1470):

وسؤال الموءودة يومَ القيامة، في مواجهة من وأدها، مع أنّ الأوْلَى-في ظاهر الأمر- أن يُسألَ الجاني لا المجني عليه، في هذا تشنيع على الجاني ومواجهة له بالجريمة التي أجرمها، ووضعها بين يديه، ليرى تلك الجناية الغليظة المنكرة، وليسمع من قتيلته التي ظنّ أنّه سوّى حسابه معها، ليسمع منطقها الذي يأخذُ بتلابيبه، ويملأ قلبه فزعًا ورعبًا.

أرأيتَ إلى قتيل يظهرُ على مسرح القضاء، هذا وقاتله في موقف المُحاكمة؟ ثمّ أرأيتَ إلى هذا القتيل، وهو يروي للقاضي: لمَ قَتَلَ ؟ وكيفَ قَتَلَ؟ ثمّ أرأيتَ إلى القاتل، وقد أذهله الموقفُ، فخرسَ لسانُه، وارتعدت فرائصه، وانهار كيانه ؟ ذلك بعضُ من هذا المشهد الذي يكون بين الموءودة ووائدها يومَ القيامة.

قال ربيع: لا أكاد أستوعب كيف كانت قلوب هؤلاء القوم، وكيف كانت مشاعرهم وأحاسيسهم، وكيف تسوّل لهم أنفسهم الأمّارة بكل قبح أن تدُسّ في التّراب نفسًا بريئة لا حول لها ولا قوة، بهذه الصّورة البشعة، التي تأباها الفِطر السّليمة، ثمّ كيف يهون على أب يتمتّع بذرّة من حنان، أو أمّ تحمل بين جانحتها مقدارًا ولو صغيرا من الرحمة التّصرف بهذه الصورة الوحشية التي لولا كتاب الله الذي أخبرنا عنها لاستبعدناها وقلنا إنّها من أساطير الأوّلين..

(فيا لله، ما أعظمَ هذه القسوة بقتل البريئات بغير جُرم سوى خوف الفقر أو العار، وكيف استُبدلت الرّحمة بالفظاظة، والرّأفة بالغِلظة، بعد أن خالط الإسلام قلوبهم، ومحا وصمة هذا الخزي عنهم).

وإنصافًا للتّاريخ وللعرب في الجاهلية نقول: إنّ هذه العادة القبيحة الظّالمة لم تكن إلاّ عند بعض القبائل العربية في الجاهلية. وفي تفسير القرطبي: قال قتادةُ كان مُضَر وخُزاعة يدفنون البناتِ أحياءَ، وأشدّهم في هذا تميم.

وكان ذوو الشّرفِ منهم يمنعونَ من هذا الفعل الشّنيع حتّى افتخر بذلك الشّاعرُ الأموي المشهور الفرزدقُ فقال:

ومنّا الذي منع الوائدات…..وأحيا الوئيد فلم توأد

يريد جدّه صَعْصَعَة، وكان يشتريهن من آبائهنّ، فجاء الإسلامُ وقد أحيا سبعين موءودة.

وسبب هذا الوأد في زعمهم خوف القهر عليهم وطمع غير الأكفاء فيهنّ. وكذلك الفقر..

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:

جاءتني مسكينة تحملُ ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كلّ واحدٍ منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقّت التّمرةَ التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شانها، فذكرتُ الذي صنعت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: (إنّ الله عزّ وجلّ قد أوجبَ لها بها الجنّة أو أعتقها بها من النّار).

وعن أنس بن مالك كما في صحيح مسلم أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

(من عالَ جاريتين حتّى تبلغا جاءَ يومَ القيامة أنا وهو) وضمّ أصابعه.

وقد جاء عن عمرَ بنِ الخطّاب رضي الله عنه قوله: أمرانِ في الجاهلية، أحدُهما يبكيني، والآخرُ يُضحكني.

أمّا الذي يبكيني: فقد ذهبتُ بابنة لي لوأدها، فكنت أحفرُ لها الحفرةَ وتنفضُ التّرابَ عن لحيتي وهي لا تدري ماذا أريد لها، فإذا تذكّرت ذلك بكيتُ. والأخرى: كنتُ أصنعُ إلهًا من التّمر أضعه عند رأسي يحرسني ليلا، فإذا أصبحت معافًى أكلته، فإذا تذكّرتُ ذلكَ ضحكت من نفسي.

https://www.facebook.com/rabia.essamlali

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *