مالكية الدكتور على غير منهج الإمام مالك
نقل الدكتور الخياطي من كتاب “جامع العلوم والحكم” لابن رجب الحنبلي ما يُبيّن موقف الإمام مالك من قراءة الحزب في جماعة بقوله: (وقد أنكر مالك ذلك على أهل الشام.. حيث قال: “عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرف هذا..”)(1). كما نقل قول الونشريسي: “فلم يكرهه أحد إلا مالك، على عادته في إيثار الإتباع، وجمهور العلماء على جوازه واستحبابه..”(2)، وأكد الدكتور هذا الكلام بقوله: “وحتى الكراهة التي تنقل عن إمامنا مالك، رضي الله عنه في شأنه والتي رُويت أحيانا بلفظ “الكراهة” وأحيانا بلفظ أخف، وهو “لا أعرفه عن السلف” يمكن حملها على محامل حسنة، نظرا لشدة ورعه، وعظيم تمسكه بما كان عليه السلف”(3).
فوصف الدكتور الإمام مالك على موقفه بقوله: (وعظيم تمسكه بما كان عليه السلف)، وقول الونشريسي (على عادته في إيثار الإتباع)، فيه بيان على أن فهم السلف هو النهج المعتمد عند الإمام مالك في فهم الكتاب والسنة، بل هو صمام الأمان عنده من الزيغ والانحراف. إذ بمخالفة منهج الصحابة، والبُعد عن فهمهم للنصوص نشأت الفرق وظهرت البدع، ولولا معرفة ما كان عليه السلف لما أمكن التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل، ولا يكاد العجب ينقضي حينما لا يهتدي -مثل الدكتور- إلى أن هذا القول من الإمام مالك رحمه الله هو قاعدة منهجية في فهمه دلائل الكتاب والسنة، وبيان منه رحمه الله في أن الاهتداء لا يكون إلا بالاعتماد على ما كان عليه الصحابة الذين هم خير هذه الأمة. فهُم رضي الله عنهم الذين عاصروا نزول القرآن، وعاينوا تطبيق الأحكام، وسمعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مشافهةً أصدق الكلام، وهم أول من باشر تعاليم الإسلام. كان الوحي ينزل تقريرا لصواب أفعالهم، وتصحيحا لما يصدر من أخطائهم. جعلهم الله وزراء نبيه، وأنصار دينه، فهُم صفوة الناس وخيارهم. زادهم الله شرفا أن جعل رضاه في اقتفاء أثرهم، بقوله تعالى: “وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ..”(4)، كما جعل الهلاك في العدول عن سبيلهم، بقوله تعالى: “وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً”(5)، إلى غيرها من النصوص النبوية والآثار السلفية التي تدل على عظيم قدر التمسك بفهم السلف. وحسبنا قول الإمام مالك رحمه الله: “فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا. ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) (6)، مما يدل على أن منزلة فهم الصحابة وهدي السلف عند الإمام مالك هي بمنزلة الدين.
وتصريحه رحمه الله على رفض أمرٍ مَا بعبارة “لا أعرفه عن السلف”، تعني عنده أنه ليس من الدين. لكنه لما كان غرض الدكتور وهَمُّه الأكبر هو دفع حكم البدعة عن قراءة القرآن جماعة، -بأي وسيلة كانت- لجأ إلى فتح باب الاحتمالات والظنون والتأويلات، بقوله: “يمكن حملها على محامل حسنة” تحايلا منه على القارئ لتحريف قول مالك، إلا أن المعيب الأكبر في فعل الدكتور هو حذفه قولا للإمام مالك يوجد مباشرة بعد القول الذي نقلناه سلفا عن الدكتور-من جامع العلوم والحكم- والذي هو: (وقد أنكر مالك ذلك على أهل الشام.. حيث قال: “عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرف هذا..”). قلت: عمد الدكتور إلى بتر ما بعد هذا النقل، حيث صرح فيه مالك رحمه الله باللفظ الحاسم الدال على حقيقة مراده والمانع من تطرق أي احتمال إلى مثل قوله: “لا أعرفه عن السلف”. حيث ذكر ابن رجب -بنفس الصفحة- قول أبي مصعب وإسحاق بن محمد القروي: سمعنا مالك بن أنس يقول: “الاجتماع بكرة بعد صلاة الصبح لقراءة القرآن بدعة، ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا العلماء بعدهم على هذا..، فهذه كلها محدثة”(7). فإسقاط الدكتور هذا النص -عمدا- مع اشتماله على تصريح الإمام مالك بحكم البدعة على القراءة الجماعية للقرآن ضرب من ضروب كتمان الحق، وهو تصرف غير مقبول وصفة ذميمة لا تليق بمن هو في مقام “دكتور”، قال وكيع بن الجراح: “أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم”(8).
تغافل الدكتور عن تحرير إطلاق لفظ الكراهة عند مالك
أما مسألة (كراهة الإمام مالك قراءة الحزب جماعة)، أو كما عبر عنها الدكتور بقوله: (والتي رويت أحيانا بلفظ “الكراهة”)؛ فهي مسألة قائمة -عند أهل الإنصاف- على أساس تحرير مراد الإمام مالك من لفظ الكراهة، فقول الدكتور بهذا الإطلاق فيه إيهام القراء أن لفظ الكراهة عند الإمام مالك يراد به ما يراد به عند متأخري الأصوليين في تعريف المكروه؛ وهو: “ما نهي عنه نهيا غير جازم”. وهذا غلط ظاهر، فالسلف ومنهم الإمام مالك رحمهم الله جميعا؛ لقربهم من زمن نزول الوحي، كانوا يستعملون لفظ الكراهة في معناها القرآني، كما جاء في قول الله تعالى في سورة الإسراء عقب ذكره جل علاه بعض المحرمات: “كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً”(9) قال ابن القيم رحمه الله: (وقَد غلطَ كَثير من الْمتأَخرين من أَتباع الأَئمة علَى أَئمتهِم بِسبب ذلك، حيث تورعَ الأَئمة عن إطلاقِ لفظ التحريم، وأَطلقوا لفظ الكَراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أَطلق علَيه الأَئمة الكَراهة، ثم سهل علَيهِم لَفظ الكَراهة وخفت مؤنته علَيهِم فحملَه بعضهم علَى التَنزيه، وتجاوز به آخرون إلَى كَراهة ترك الأَولَى، وهذا كَثير جدا في تصرفاتهِم؛ فحصل بسببه غلط عظيم علَى الشريعة وعلَى الأئمة،…وقد قَال مالك في كَثير من أجوبته: أكره كَذا، وهو حرام؛ فمنها أن مالكا نص علَى كراهة الشطرنج، وهذا عند أكثر أصحابه علَى التحريم، وحملَه بعضهم علَى الكراهة الَتي هي دون التحريم)(10). ومن ثم فأي دعوى لحمل الكراهة في استعمال الإمام مالك من دون قرائن تدل على نوع مراده، فهي دعوى باطلة. وحسبنا على هذا القول أن كراهته لقراءة الحزب جماعة لا تعني عنده إلا أنها بدعة محرمة بصريح قوله رحمه الله. ولعل في هذا كفاية، حيث بقيت مآخذ أخرى على الدكتور كنت أود بيانها، إلا أني فضلت إرجاءها إلى مناسبة قادمة إن شاء الله؛ وذلك كمسألة: (تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام)، ومسألة (تشنيع الدكتور بظلم على الشيخ تقي الدين الهلالي بتحريف كلامه)، وكذا مسألة (بيان الشروط المعتبرة عند أهل العلم للاجتماع على مدارسة القرآن).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــ
1- مقال: القراءة الجماعية للقرآن وطريقة “الحزب الراتب” مجلة المجلس، العدد الأول، ص:64
2- المرجع نفسه ص: 66
3- المرجع نفسه ص: 68
4- سورة التوبة 100
5- سورة النساء 115
6- الاعتصام للإمام الشاطبي 1/62
7- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي شرح: الحديث رقم 36.
8- سنن الدارقطني: 1/26
9- سورة الإسراء الآية 38
10- إعلام الموقعين لابن القيم 2/75-79