التربية الإيمانية أساس مكافحة الفساد الأخلاقي رشيد مومن الإدريسي

لا يخفى على البصير أن الفساد الأخلاقي له آثار وخيمة على الفرد، وتمتد إلى الأمة في أساسها الديني، وبنيتها الاقتصادية، وقوتها العسكرية، وترابطها الاجتماعي، وحالتها الصحية والنفسية..، فتنحرف بذلك المجتمعات ويدب فيها الوهن والضعف، فيتكالب عليها الأعداء، وتتمزق العلاقات..، كل ذلك بسبب البعد عن دين رب الأرض والسماوات.
والفساد الأخلاقي ومظاهره من أهم القضايا التي أرقت قلوب الغيورين، وشغلت بال المصلحين، إلا أن الأنظار قد اختلفت فيما بينهم حول ماهية الطريق الأمثل والأساس الذي فيه المخرج من هذا الواقع المؤلم، فمع اختلاف نظراتهم تتفاوت طرائقهم المنبثقة من هاتيك النظرات، مما يؤدي -حتما- إلى واقع سيء آخر أثمره ذاك الاختلاف الفكري، والتباين العملي بين هؤلاء المصلحين أنفسهم!!!
ولو أن هؤلاء المصلحين -أصلحنا الله وإياهم- سددوا نظرتهم، وعمقوا فكرتهم، وسلكوا مسلك سلفهم الصالح، وانطلقوا في إصلاحهم من واقع يعيشونه، وحاضر يحيونه(!)، لرأوا جميعا أن قاعدة الإصلاح عموما، وأساس مكافحة الفساد الأخلاقي خصوصا بينة أمامهم، ظاهرة قدامهم، تتمثل في إصلاح الأنفس أصالة، وأن يكون الجهد الغالب في تعميم التربية الإيمانية في طبقات الأمة1، مع الإشارة إلى أن السير الحثيث على هذا النهج القويم لا يمنعنا من الحديث وربما العمل -وقد يجب- في القضايا التي تعرض للمجتمعات..، ومن الكلام وربما الولوج في الحوادث التي تنزل بالأمة..، كل ذلك بـ(شرطه وضابطه) وفي (محله وبحسبه ومقداره)، (ومن أهله وأربابه)، وفق (العلم الأثري)، و(النهج النبوي)، وبمبعدة عن (الحَوَل الفكري)!!
“فصلاح النفس هو صلاح الفرد، وصلاح الفرد هو صلاح المجموع، والعناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس، إما مباشرة وإما بواسطة، فما من شيء مما شرعه الله تعالى لعباده من الحق، والخير، والعدل، والإحسان إلا وهو راجع عليها بالصلاح، وما من شيء نهى الله تعالى عنه من الباطل والشر والظلم والسوء، إلا وهو عائد عليها بالفساد، فتكميل النفس الإنسانية هو أعظم المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل، وشرع الشرائع “2.
إن أساس الفساد الأخلاقي هو الإنسان ذاته، ونفسه الأمارة بالسوء، فإن صلحت واستقام أمره، نأى عن كل فساد، وإن أخذ ذات الشمال أو ذات اليمين غرق في أوحاله، وجر على مجتمعه ويلاته.
وعليه فأي جهد شرعي لمكافحة الفساد الأخلاقي من (ذيوع الغش والخيانات، والاستبداد والاختلاسات) حرصا على المصالح الشخصية، والمكاسب الدنية، و(انتشار المسكرات والمخدرات، وحلول ما اختلت به الموازين من المهرجانات) لإشباع الرغبات النفسية، وإضلال البرية، و(ظهور الانحرافات الجنسية، وإقامة الحفلات التي ملكت القلوب الضعيفة فانقلبت معايير الجمال الحقيقية) ففسدت أحوال الرعية، وصارت الأخلاق شيطانية… إلى غير ذلك دون مراعاة ما هو أساس في عملية الإصلاح بتحقيق التربية الإيمانية تكون ثمرته ضعيفة في الحقيقة بحيث سرعان ما تضمحل آثاره، لأن القلوب خربة، والنفوس معوجة..، فإن سلطان القلوب والأرواح هو الأصل الذي يحرص عليه غالبا أرباب الإصلاح حقا، أما مجرد سلطان الأبدان والأشباح فعارض سريع الزوال لأن طريقه الرهبة، أما الأول فبابه الرغبة..، فتأمل وبالعلم تجمل، فالتربية الإيمانية هي الحل الأمثل في كل عملية إصلاحية، لأن وازع القرآن هو الأصل، ثم وازع السلطان هو الرافد المساعد.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “..وذلك أن الله يقول في كتابه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب)، فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنه أنزل الحديد كما ذكره، فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر: (وكفى بربك هاديا ونصيرا)، والكتاب هو الأصل، ولهذا أول ما بعث الله رسوله أنزل عليه الكتاب، ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوان على الجهاد”3.
فانظر كيف جعل الكتاب هو الأصل، وأما السلطان فناصر، وعلى هذا يُفهم ما قيل: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فافهم وإياك والوهم، وبيانه على وجه الاختصار بالمثال فنقول: أن الخمر لا تروج في سوق المسلمين إذا كان الهداة مجتهدين في هداية الناس وتربيتهم إيمانيا -عقيدة وعبادة وسلوكا- هكذا نصحا وبيانا ارتقاء إلى مستوى الشعب4، فهنالك تختفي البضاعة المحرمة، لأنه لم يبق لها طلاب، وربما بقي بعض يعاقرونها، فهنا يظهر السلطان الصالح بسوطه فيُصلح ما لم يصلحه البيان والوعظ أولا؛ وليُبْقِي على الأمر الصالح ثانيا5، وأما أن يُعكس الفعل فيسلط السلطان من أول يوم، فلا يستقيم الحال..
قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فـ”أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم”6.
فالتغيير تغييران:
– تغيير الأنفس والأعمال، وهو على العبد بتوفيق الله له.
– وتغيير الواقع والحال، وهو على الرب سبحانه بمنته وفضله.
وهما متتاليان لا يتحقق الثاني إلا بتحقق الأول شرطا، ومن عكس الأمر يناله ما في قوله تعالى: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم).
ومن تم فإن الأنظمة المحكمة، و”الحكامة الجيدة” لمكافحة الفساد الأخلاقي خاصة إن افتقدت جانب التربية الإيمانية فسوف تفقد قوتها وسلطانها تلقائيا، بل تفقد حياتها وروحها، ومن السهل –عنذئذ- أن يقع من الناس التحايل على إخضاع الأمر في الواقع الحالي، والتهرب من ذلك اعتمادا على التأويل الدني، والتماس المخارج بـ “الفراغ القانوني” !!!
فالغيث مع أنه صالح في ذاته لكنه يحتاج إلى أرض خصبة فينبت فيها النبت الطيب فيأتي أكله كل حين بإذن ربه.
إن الانغماس الرهيب في الفساد الأخلاقي يقتضي من أي نظام -كي يوقف زحفه، ويقلم مخالبه-، أن يضع شرطيا ورقيبا على كل فرد في المجتمع، وهذا واضح البطلان لاستحالته عادة، وعندها نقول: بإمكاننا إيجاد هذا الشرطي والرقيب، لكن في النفوس، إنه (الرقيب المعنوي الذاتي )، أو (الوازع الديني الإيماني)…
فالتربية الإيمانية إذن هي الأساس لمكافحة الفساد الأخلاقي؛ ولن نَمَلَّ من بيان ذلك وتكراره -وإن اتهمنا بالانهزامية والسلبية بغير حق(!!)- لأنه أصل ثابت في فقه التغيير عند أهل السنة السنية، ولذا فالواجب أن يَغْلب علينا تقرير ذلك علما وعملا، أما أن يصير فينا ضعيفا والتطرق له في كلامنا عَرَضا وعلى استحياء فهو بُعْد عن دلائل السنة والقرآن، وخلل في النظر لاختلال الميزان، وإذا لم نَفِق في غمرة الأحداث من الغفلة عن ذلك فهو عين الخذلان..
فالتربية الإيمانية والتي حقيقته ربط المكلف بأصول الإيمان، وتربيته على العمل وفق الإحسان هي الوازع من نفس الإنسان ليجتنب الفساد الأخلاقي، وعند وقوعه في شيء من ذلك سرعان ما يتوب ويؤوب، والناظر في آيات الكتاب والأحاديث والآثار يجد تأصيل ذلك، حيث يجد المتأمل كيف يُعَقِّب الله تعالى بعد آيات في الباب من كتابه بقوله: (إن كنتم مؤمنين).
فاقرأ معي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين).
وقال تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين).
وقال تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين).
وهكذا أيضا في العديد من الآيات التي استهلها الله تعالى بقوله: (يا أيها الذين آمنوا)، وما ذكر بعدها من الأوامر والتوجيهات، بحيث رُبطت الأحكام بجانب التربية الإيمانية، أي: هي الباعث والسبب على امتثال الأمر واجتناب النهي..
وهذا هو المسلك نفسه الذي سلكه الرسول عليه الصلاة والسلام في التغيير والإصلاح حيث كان يفتتح أحاديثه بجانب التربية الإيمانية للتدليل على أن مكافحة الفساد الأخلاقي خاصة أساسه تغيير الأنفس، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر..”7.
وقد لخصت ذلك أمنا عائشة رضي الله عنها بقولها: “..إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا..”8.
قال الإمام ابن حجر رحمه الله عند هذا الأثر: “..أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها، وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف..”9.
وفي الختام: فليعلم أن المدخل لتحقيق التربية الإيمانية هو العلم النافع “فنعمة العلم في استعمال الفضائل عظيمة، وهو أنه يعلم حسن الفضائل فيأتيها، ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها، ويسمع الثناء الحسن فيرغب في مثله، والثناء الرديء فينفر منه، فعلى هذه المقدمات يجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة، والجهل حصة في كل رذيلة”10.
…………………………………..
1. قال العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله: “تعميم التربية بين طبقات الأمة شيء واجب، لا ينتظم لها العيش الناعم بدونه، ولا تشرق صحائف تاريخها بسواه” حياة الأمة ص:25.
2. قاله العلامة ابن باديس رحمه الله كما في آثاره 1/232-233.
3. مجموع الفتاوي 28/234، وقال أيضا رحمه الله: “ودين الإسلام: أن يكون السيف تابعا للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعا لذلك كان أمر الإسلام قائما” الفتاوي 20/393.
4. و”من استطال الطريق ضعف مشيه” بدائع الفوائد 3/732، والفوائد 78 كلاهما للإمام ابن القيم رحمه الله.
5. عند إيراد قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) في معرض الحديث عن فقه التغيير عند أهل السنة والحديث، يقابل البعض ذلك بما صح عن الصديق رضي الله عنه لما قال: “ما استقامت بكم أئمتكم”، دون الرجوع إلى الرواية لضبط سياقها، حيث أن كلام الصديق رضي الله عنه هذا كان جوابا عن سؤال يخص البقاء على الصلاح، وهذا هو المقصود من قول العلماء: “بصلاح الأمراء صلاح الناس”، ولم يكن السؤال عن الطريقة التي يستصلح بها الفساد، أو يؤسس عليها الإصلاح، فتأمل ولا تعجل..
روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه برقم :3622 عن قيس ابن أبي حازم قال: “دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تكلم فقال ما لها لا تكلم؟ قالوا حجت مصمتة قال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال امرؤ من المهاجرين، قالت: أي المهاجرين؟ قال من قريش، قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسؤول، أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت بلى قال فهم أولئك على الناس”.
قلت: فانظر قولها: “ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح؟”، قال الحافظ في الفتح7/151: “قولها: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح، أي: دين الإسلام وما اشتمل عليه من العدل واجتماع الكلمة ونصر المظلوم ووضع كل شيء في محله”.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ومعلوم أنه إذا استقام ولاة الأمور الذين يحكمون في النفوس والأموال استقام عامة الناس كما قال أبو بكر الصديق فيما رواه البخاري في صحيحه للمرأة الأحمسية لما سألته فقالت: “ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح”؟ قال: (ما استقامت لكم أئمتكم)..” الفتاوي 10/354.
6. الجامع لأحكام القرآن 9/294 للإمام القرطبي رحمه الله.
7. انظر صحيح الترغيب والترهيب للإمام الألباني رحمه الله 1/40.
8. رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه برقم: 4707.
9. فتح الباري 9/40.
10. مداواة النفوس 25 للإمام ابن حزم رحمه الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *