شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

كـذلـك التـصـديــق حـيـث تــاتـي            مـقـدمـاتـه ضــروريــات

أو تقتضي القرب من الضروري             فهو الذي يليق بالجمهـور

وحـكـمـه فـي الشــرع ذو ثـبــات            وجاء في القرآن في آيات

قال الناظم «كذلك» يعني كما يطلب أن يكون الخطاب التصويري للجمهور تقريبيا لما تقدم ذكره كذلك «التصديق» فإنه يكون لائقا بالجمهور إدراكه، «حيث» أي في أي موضع -دليل- «تاتي مقدماته» أي ذلك الدليل حالة كونها «ضروريات» وهي التي يجزم العقل بثبوتها من غير حاجة إلى نظر وتأمل.

«أو» التي «تقتضي» بما تدل عليه من معنى «القرب من» العلم «الضروري» من جهة أنها تدرك بادنى نظر؛ وهذا الضرب من المسالك في طلب الحكم لا يحتاج في أخذ ثمراته إلى إتعاب الذهن، والبحث الطويل، ولذلك «فهو الذي يليق بـ» مخاطبة «الجمهور» وتبليغ ما يراد تبليغه لهم من أمور.

«و» هذا التصديق «حكمه في» خطاب صاحب «الشرع» -حكمه يعني طلبه- «ذو ثبات» «و» من الأدلة على ذلك أنه قد «جاء في القرآن في آيات» كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}.

كـقــولـــه أفــرأيــتـــم نـســقـــا     وغيرهـا كمثـل أمّـن خلـق

وما يرى عن حكم هذا قد خرج     فمتلف للعقـل مـؤد للحـرج

وكقوله تعالى: {«أفرأيتم» الماء الذي تشربون آنتم انزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} «نسقا» عطفا على ما قبله من الآيات الأخرى التي يطلب بها من التصديق ما يطلب به «وغيرها» أي غير هذه الآية «كمثل» قوله تعالى: {«أمّن خلق» السماوات والارض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أاله مع الله}.

«و» كل «ما يرى» أي يعلم أنه «عن حكم هذا» الذي ذكر في طلب التصديق هذا «قد خرج فـ» إنه طريق «متلف للعقل» لما فيه من الاعتياص والتكلف الشديد وقعه على النفس، ولما يوجبه من إبعاد الجمهور عن جني ثمرته، كما أنه «مؤد» موصل «للحرج» والضيق في الإدراك؛ وهذا بين في مسائل التكليف، والكسب والقدرة وما أشبهها عند الخائضين فيها على الطريقة الكلامية المعروفة في هذا الشأن.

المقدمة السابعة

في ان العلم الشرعي لا يطلب الشارع تعلمه الا للعمل، فان ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني، لا بالقصد الاول -وهو هنا العمل-.

قال الناظم في ذلك:

وما من العلم إلى الشرع انتسب     وجاءت النصوص فيه بالطلب

فـهــو الــذي يـكــون للــتـعـبـــد    وسـيـلـة لا لسـوى ذا المقـصـد

وكــم عـلــى ذلـك مــن دلــيـــل     مـن الـحـديـث ومـن التـنـزيــل

وإن بـدا وجـه لـغـيــر الـعـمـــل    فـهــو لـقــصـــد تـابـــع لا أول

ولـيـس فضل العلـم إلا بالعـمــل    إذا علـى الخلـوص لله اشتـمــل

دلـيـلــه الـذم لـغــيــر الـعــامــل    بـعـلـمــه فــي عــاجــل وآجــل

«وما من العلم إلى الشرع انتسب» فيوصف لذلك بأنه علم شرعي «وجاءت النصوص» الشرعية «فيه» أي في شأنه «بالطلب» أي بطلب تعلمه وتحصيله.

«فهو» العلم «الذي يكون» ويراد «للتعبد» به الله تعالى «وسيلة» فهو لهذا المقصد يطلب تعلمه «لا لسوى ذا المقصد» وقد يؤخذ منه ويجنى.

و«كم على ذلك» الذي ذكر من «دليل» يدل عليه «من الحديث» النبوي «ومن التنزيل» القرآن الكريم.

«وإن بدا» في علم شرعي ما «وجه» قد يكون معتبرا ومقصودا «لغير العمل» الأخروي وعبادة الله تعالى فهو غير مقصود لذاته، وإنما يذكر عرضا، ولذلك «فهو» متمم «لقصد تابع» وثان «لا» لقصد «أول» قصد من ذلك العلم، ولا يكون إلا العمل.

«و» من تلك الأدلة الدالة على أن طلب العلم الشرعي لا يكون إلا للعبادة أنه «ليس فضل العلم» وشرفه «إلا بالعمل» إذ روح العلم هو العمل «إذا» كان ذلك العمل «على الخلوص» يعني الإخلاص ويقال -أيضا- خلص الشيء يخلص خلوصا إذا صار خالصا «لله» -تعالى- «اشتمل»، وإنما يكون كذلك إذا خلا من موانع القبول كالرياء والعجب.

«دليله» أي دليل هذا الذي ذكر هو «الذم» الوارد في نصوص من الكتاب والسنة كثيرة «لغيـر العامل بعلـمه» والذي يحيـق به «في عاجل» يعنـي في عاجـله -زمان الدنيا- و«آجـل» يعنـي في آجــله -زمان الآخرة-.

وأفضل العلم على التحقيق           العلم بالله مع التــصديق

لـذا أشــد الـذم ذم جــاحــد            مكذب مع علمه بالواحد

«وأفضل العلم» وأشرفه «على التحقيق» -وهو بناء الحكم على الحقيقة المطلقة في هذا الشأن- هو «العلم بالله» سبحانه وتعالى، فلا تصح فضيلة بعلم لصاحبه حتى يصدق بمقتضاه وهو الإيمان بالله تعالى «مع التصديق» بما جاء في كتابه من أمور الغيب.

و«لذا» الذي ذكر -وهو أن العلم بالله أفضل العلوم- كان «أشد الذم» والعذاب هو «ذم» كل «جاحد» لآيات الله ووجوب العبادة لله تعالى، «مكذب » لما جاء به الرسل والأنبياء عليهم الصلاة السلام «مع علمه» وإقراره «بالواحد» جل وعلا إلها وخالقا، فيكون جامعا بين العلم والتكذيب؛ فإن قيل: هذا متناقض فإنه لا يصح العلم مع التكذيب؟ قيل: بل قد يحصل العلم مع التكذيب، فإن الله قال في قوم موسى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل: 14]، وقال: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146]، وقال: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يومنون} [الأنعام: 20]، فأثبت لهم المعرفة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم بين أنهم لا يؤمنون، وذلك مما يوضح أن الإيمان غير العلم، كما أن الجهل غير الكفر(*).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-(*) الموافقات، ج.1/ ص.3.

يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *