المزاح في السنة ضوابطه وأهدافه

المزاح سلوكٌ اجتماعِي يرتبط بالإنسان دون غيرِه من المخلوقات، فهو أحدُ وسائل المُعاشرة بين بنِي الإنسان، وهو أحدُ الأسباب لطَرد السأم والمَلل، وتطيِيب الخواطِر والمجالس، بل هو منهَج تربوِي هادِفٌ.

ولمَّا كان بهذِه المثابة أحبَبنا أن نفِيد القُراء ببعض ما يتعلَّق بهذا السلوك في شرعنا المطهر، علَّنا نصحِّح بعضَ المفاهيم، أو نصوِّب بعض الأخطاء الَّتي قد تحُوم حولَ هذا المقصد الاجتِماعي النبيل، فإلى ذلك في النِّقاط الآتية:

أوَّلاً: تعريف المزاح
المزاح في اللُّغة: الدعابة، ويقال: “المزاح نقيض الجِدِّ”.
أمَّا اصطلاحًا: فعرفه بعضُ أهل العِلم بأنه: المُباسَطة إلى الغَير على جهة التلطُّف والاِستعطاف دون أذية.
ثانيًا: حكمه
المزاح في الأصل مباحٌ إِن سلِم من محرَّمٍ؛ لفِعل النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم له.
قال العِزُّ بنُ عبد السَّلام رحمه الله: “فإنْ قيل: فما تقولون في المزاح؟ قلنا: إنما يجوز المزاح لما فيه من الاستِرواح، إما للمازِح أو للمَمزوح معَه، وإما لهما”.
والأصل في ذلك: ما روى الترمذي وقال: “حديث حسن صحيح” وانظر الصحيحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- إنك تُداعِبنا، قال: “نَعَمْ، غَيْرَ أَنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا”.
وقال الغَزِّي الشَّافعي رحمه الله: “سُئِلت قديمًا عن المزاح وما يكونُ منه وما يُباح، فأجَبتُ: بأنه مندوبٌ إليه بين الإخوان والأصدِقاء والخِلاَّن؛ لما فيه مِن ترويحِ القُلوب، والاستِئناس المطلوب، بشَرط أن لا يكُون فيه قذفٌ ولا غِيبةٌ، ولا انهِماكٌ يسقِط الحِشمَة”.

ثالثًا: الحكمة من شرعيته
مما سبَق يتجلَّى لنا بوُضوحٍ أنَّ الحكمة مِن شرعية المزاح هي: مُؤانسة الإخوان وتطيِيب النفوس؛ لأنَّ المزاح ما أُبِيح إلاَّ لما فيه من الاستِرواح، إما للمازِح أو المَمزوح معه، وإمَّا لهما.
لكن هذا الجواز، أو الندب حتى يؤدِّي مقصودَه الشرعي ينبغي أن يتقيد بالضوابط الشرعية والأهداف السامية للمزاح، حتى لا يخرُج عن قيد الشرعية إلى المزاح المذموم وإليك البيان.

رابعًا: ضوابط المزاح المشروع
1 ـ تحرِّي الصِّدق والبُعد عن الكذِب.
2 ـ أن يكونَ على الاقتِصاد، فلا إفراطَ فيه ولا مُداوَمة.
قال الراغبُ الأصفَهاني رحمه الله: “المزاح إن كان على الاقتِصاد فهو المَحمُود”.
3 ـ أن لا يكونَ مَجلبةً للأحقاد أو محرِّكًا للضَّغائِن؛ فإن كان كذلك فإنه لا ينفك عن تحريمٍ أو كراهةٍ عند أهل العلم.
ولذا قيل في خصوصه: “لكلِّ شيءٍ بَدءٌ، وبَدءُ العَداوة المُزاح”.
4 ـ أن لا يكون مروِّعًا أو مخيفًا للغَير، فإن كان كذلِك فهو مذمومٌ حرامٌ.
5 ـ أن يكون بجميلِ القول ومُستحسَن الفِعل، فيجتنب المازِحُ في مزاحه القولَ القبيح الفاحِش، والفعل السيِّءَ المخلَّ بالأدب مع الأصدقاء والخلاَّن، فإنَّ ذلك مجلبةٌ للنفور محرِّكٌ للضغائِن.
6 ـ أن يكون أكثرُه مع من يحتاجون إليه: كالنِّساء والأطفال، وكذلِك كان حالُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فإنَّ أكثر مطايباتِه صلَّى الله عليه وسلَّم كانَت مع النِّساء والصِّبيان، وكان ذلك منه صلَّى الله عليه وسلَّم معالجةً لضَعفهم من غير ميلٍ إلى هَزلٍ.

خامسًا: أهداف المزاح المشروع
المزاح من صُوَر المجامَلة الاجتماعية الحقَّة، والمفاكَهة الإنسانِية المتوارَثة، وقد شُرع في الإسلام لأهدافٍ وغاياتٍ سامِيَة منها:
1 ـ الإسهامُ في زيادَة الروابط الاجتماعِية.
2 ـ استِجماع النشاط وزِيادة الاقتِدار على متابَعة مسؤوليات الحياة.
3 ـ تيسِيرُ الوصولِ إلى الآخَرين مِن خلال استِلانة قلوبهم لتسهيل انقِيادها، ومن ذلك مُلاطَفته صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابِه رجالاً ونساءً وصغارًا.
4 ـ معالجةُ ضَعف القُلوب وجَبرها، ولذا كانت أكثرُ مطايباتِه صلَّى الله عليه وسلَّم مع النِّساء والصِّبيان، معالجةً لضَعف قلوبهم.
5 ـ نشرُ البَسمة على الشِّفاه وإشاعةُ الفَرح والسرور.
6 ـ تهذِيب الممازَح وغيرَه وتقويمُ سلوكِهم.
واعلم أنه في ميدان المزاح يجب الحذر من أمور وهي:
1 ـ الاستِهزاء بالدِّين أو بأحَد شعائِره.
2 ـ الاستِهزاء بالنَّاس مع الغَمْزِ واللَّمْزِ لهم.
3 ـ المزاح الَّذي قد يؤدِّي إلى الإِضرار بالمَمزُوح معه، روى البخاري واللَّفظ له، ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: “لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ، فَإِنهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ الشيْطَانَ يَنْزِغُ فِي يَدِهِ، فَيَقَع فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ”.
قال الحافظ ابنُ حجر رحمه الله: “فيه النهي عما يُفضِي إلى المحذور، وإنْ لم يكُن المحذُور محقَّقًا سواء كان ذلك في جِدٍّ أو هَزلٍ”.
فاحذَر أيها المسلم أن يصدُر منك مثل هذا التصرف المشِين فيلحقَك ذاك الوعيدُ العظيم، سلَّمني الله وإياك.
4 ـ ما اشتمل على كذبٍ أو غِيبَةٍ:
أمَّا الأوَّل: فقد مضى التَّنبيه عليه في الضَّابط الأول، فليكن ذلك منكَ على ذُكرٍ.
أمَّا الثاني: فمرضٌ خبِيثٌ، وكبيرةٌ مِن كبائر الذُّنوب، يكفي في قُبحِه أنه أكلٌ للُحوم الناس بغير حقٍّ.
روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “لمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ الناسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ”.
وقد زيِّن هذا الفِعلُ القَبِيح لبعض الناس فصار يقترِفُه ويقَع فيه، كلُّ ذلك باسم المزاح ودفعِ السأم والمَلل، وما شعَر مُقترِفه أنَّ ذاك من الغِيبَة المحرمة الَّتي قال فيها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم موضِّحًا ومبيِّنًا لحدِّها لما قال: “أتَدْرُونَ مَا الغِيبَةُ؟”، قَالُوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: “الغِيبَةُ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ”.
فالتنكِيت وإدخالُ السرور على الغَير، والانبِساط إلى الإخوان لا يكُون أبدًا بما حرم اللهُ تعالى؛ فلْيُعْلَم ذلِك.
وخِتامًا هذه ضوابطُ وأهدافٌ لهذا السلوك الاجتماعيِّ النبيل، تم جمعها وترتيبها قدر الجهدِ والمقام، علَّ قارِئها ينتفِعُ بها، رزَقنا اللهُ جلَّ وعلا كريمَ الأخلاق، وجميلَ الفِعال، آمين.
وصلِّ اللَّهُم ربِّ على مَنْ بُعِث متمِّمًا لمكارِم الأخلاق، وعلى آله وصحبِه، وسلِّم تسليمًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *