يا إخواننا، إن الدعوى والزعْم، وسفاسف الأقوال، وتوافه الأعمال، وتصغير الكبائر، وتكبير الصغائر، كلُّ ذلك مما لا تقوم عليه عقيدةٌ سياسية، ولا تربيةٌ وطنية.
إننا لو جمعنا كل آرائكم في السياسة وفرضْنا تحقيقها، لما أفادت الأمة شيئًا وهي بهذه الحالة من التربية، فكيف وأنتم مُتبايِنون؟ وكيف وأنتم مع الخلاف يَكفُر بعضُكم ببعض، ويلعنُ بعضُكم بعضًا؟
إن وراء السياسة شيئًا اسمه الكياسة، وهي خلُق ضروري للسياسي، وإن السياسي الذي يَحترم نفسه، يَحترم غيره مهما خالفه في الرأي، ومهما كان الخلاف جوهريًّا، فإذا لزم النقد، فلا يكون الباعث عليه الحقد، وليكن موجهًا إلى الآراء بالتمحيص، لا إلى الأشخاص بالتنقيص.
إننا لا نتصوَّر كيف يخدم السياسي أمَّتَه بتقطيع أوصالها، وشتْم رجالها، وتسفيه كل رأي إلا رأيه؟ ولا نتصوَّر أن مما تُخدَم به الأمة هذه الدروس (العالية) في أساليب السبِّ، التي يُلقِّنها بعض الأحزاب لطائفة مِن شباب الأمة في (معاهد) المقاهي والأزقة؛ إن تَضْرِيَةَ الشبان على الشتم والسباب جريمةٌ لا تُغتفَر.
إن شباب الأمة هو الدم الجديد في حياتها؛ فمن الواجب أن يصان هذا الدمُ عن أخلاط الفساد، ومن الواجب أن يتمثَّل فيهم الطهر والفضيلة والخير، ومن الواجب أن تُربَّى ألسنتُهم على الصدق وقول الحق، لا على البذاء وعوْرات الكلام.
يا قومنا، إننا نخشى أن تُفسدوا على الأمة (بهذه الدروس) جيلاً كاملاً كنا نجهد أنفسنا في تربيته على طهارة الإسلام، وهِمَم العرب، ومجْد العروبة، والإيمان بحقوق الوطن، والعمل على تحقيق استقلاله وحرِّيته، ونبنيه طبقًا عن طبَق، ونُعلي أخلاقه خلُقًا عن خلُق، نخشى أن تضيِّعوا على الأمة هذا الجيل، وتُفسدوا مواهبَه، وتُلهوه بالمناقشات الحزبية عن الحقائق القومية.
نخشى ذلك، ونخشى أكثر منه على هذه الطائفة المُقبلة على العِلم، المُنكبَّة على تحصيله، هذه الطلائع التي هي آمال الأمة، ومناطُ رجائها، والتي لا تُحقِّق رجاءَ الأمة إلا إذا انقطعَت إلى العِلم وتخصَّصت في فروعه، ثم زحفت إلى ميادين العمل مُستكمِلةً الأدوات تامة التسلُّح، تتولى القيادةَ بإرشاد العِلم، وتُحسِن الإدارة بنظام العِلم، فتثأر لأمَّتها من الجهل بالمعرفة، ومن الفقر بالغِنى، ومِن الضعف بالقوة، ومِن العبودية بالتحرير، وتَكتسِح من ميدان الدين بقايا الدجالين، ومن ميدان السياسة والنيابة بقايا السماسرة والمتَّجرين، ومِن أفق الرياسة بقايا المُشعوِذين والأميِّين.
هذه الطائفة الطاهرة، الطائفة بمناسك العِلم، قد ألهبتُم في أطرافها الحريقَ بسوء تصرُّفكم، فبدأت تنصرف من رحاب العلم إلى أفنية المقاهي، ومن إجماع العِلم إلى خلاف الحزبية.
إن مِن طلاب العلم هؤلاء مَن يدرسُ الدين، وإن الدِّين لا يجيز لدارسه أن يُفتي في أحكامه إلا بعد استحكام الملَكة واستجماع الأدلة؛ حذرًا من تحليل محرَّم، وإن منهم الدارسَ للطبِّ، وإن قانون الطب لا يُجيزُ لدارسه أن يضعَ مِبضعًا في جسم إلا بعد تدريب وإجازة؛ خوفًا من إتلاف شخص، فهل بلغ مِن هوان الأمة عليكم أن تضعوا حظَّها في الحياة في منزلةٍ أحطُّ مِن حظِّ امرأة في طلاق، وأن تجعلوا حقَّها في الدواء أبخسَ من حق مريض على طبيبه؟
إنها -والله- لجريمة يُقيم بها مرتكبوها الدليلَ على أنهم أعداء للعلم، وقطَّاع لطريقه، أم يقولون “لا علم بدون استقلال” فيُعاكسون سنَّة الله التي تقول: “لا استقلال بدون علم”، أم يقولون ما قاله كبير منهم: “إن محمدًا لم يأت بالعِلم؛ وإنما أتى بالسياسة”، و”إن روسيا لم تُفلح بالعلم؛ وإنما أفلحت بالسياسة”؟!
هذه نصائح مريرة، وحقائق شهيرة، لم نسمِّ فيها أحدًا، فمن استفزَّه الغضب منها، أو نزا به الألم مِن وقعها، فهو المريب، يكاد يقول: خذوني.
(آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3: 64) وما بعدها، بتصرف)