لا شك أن الناس متفاوتون في عبادتهم لله “ذلك أن ألوهية الله متفاوتة في القلوب على درجات عظيمة تزيد وتنقص، لذا كان تفاضلهم في العبودية كبير لا ينضبط طرفاه” الفتاوي.
يقول تعالى: “ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ”.
فدلت الآية أن العباد المصطفين ليسوا درجة واحدة بل ثلاث، فعندنا ظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات.
فالعباد متقلبون في هذه الدرجات متفاوتون في نصيبهم منها وهذا لا يعني أن أحدهم معصوم من الذنوب، فالمسلم ذو خطأ كما قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده بإسناد حسن: “كل بني آدم خطاء وخير الخطَّائين التوابون”.
على أن المتقي الكامل لا يظلم نفسه بالتمادي بالذنوب والمعاصي كما قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ”.
قال السعدي في تفسير الآية: “ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب تذَّكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب اللّه عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر اللّه تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه”.
والشاهد والمقصود أن أحوال العباد تتفاوت في الطاعة والقربة.
فأما السابق بالخيرات فهو الذي يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فيفعل الواجبات والمستحبات ويترك المحرمات والمكروهات.
أما المقتصد فهو الذي يقيم الفروض ويجتنب كبائر الذنوب وكثيرا من الصغائر، وحظه من النوافل قليل. (انظر الفرقان لابن تيمية، وتفسير ابن جرير الطبري).
وأدنى هؤلاء: الظالم لنفسه وهو الذي يظلم نفسه بارتكاب المعاصي والآثام التي هي دون الكفر كما قال شيخ الإسلام في الفتاوي، وكلامنا في هذا الموضوع حول هذا الصنف: إنه صاحب الكبيرة من أهل التوحيد الذي لا يتورع عن التمادي في المحرمات والمعاصي.
حقيقة المعصية
المعصية في اللغة من العصيان، يقول صاحب اللسان: “العصيان خلاف الطاعة، عصى العبد ربه إذا خالف أمره”.
وقال الجرجاني في التعريفات: “العصيان هو ترك الانقياد”.
أما المعصية شرعا فهي ترك المأمور وفعل المحظور، أو ترك ما أوجبه الله وفرضه في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وارتكاب ما نهى الله عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأعمال الظاهرة أو الباطنة.
وقد جاء معنى العصيان شرعا بألفاظ كثيرة:
1- الذنب، قال تعالى: “كُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ”.
2- الخطيئة، قال تعالى في إخوة يوسف: “إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ”.
3- السيئة، قال تعالى: “إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ”.
4- الحوب، قال تعالى: “إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً”.
5- الإثم، قال تعالى: “قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ”.
6- الفسوق، قال تعالى: “كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ”.
7- الفساد، قال تعالى: “إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادا”ً.
8- العتو، قال تعالى: “فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ”.
متعلقات المعصية
للمعصية متعلقات كثيرة وذلك بحسب الزمان والمكان.
أما الزمان فإن المعصية في بعض الأوقات أعظم منها في وقت آخر، كالأشهر الحرم ورمضان ونحو ذلك.
قال قتادة رحمه الله: “إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة وزورا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيم ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء” تفسير بن كثير.
وأما المكان فلا شك أن بعض الأماكن أفضل من بعض، فأفضل بقاع الأرض مكة ثم المدينة ثم بيت المقدس.. وكما أن الحسنات فيها مضاعفة كذلك السيئات فيها عند الله عظمية ليست كغيرها.
قال عبد الله بن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم: “لو همَّ رجل يقتل رجلا بهذا البيت وهو بعدن لعذبه الله” الجامع لأحكام القرآن.
وتختلف الذنوب والمعاصي باعتبار عظمها وشناعتها ومراتبها إلى كبيرة وصغيرة بإجماع السلف كما قال ابن القيم في مدارج السالكين، والقول المعتمد في التفريق بينهما هو بالضوابط الآتية: أن الذنب الكبير يعرف بـ:
1- الإخبار أنه من الكبائر.
2- كل ما ورد فيه حد من حدود الله في الدنيا.
3- ما ورد فيه وعيد شديد، كالنار، والغضب، واللعنة..
4- ما ورد فيه نفي الإيمان.
مداخل المعاصي على العبد
أكثر ما تدخل المعاصي على العبد من أبواب أربعة من حفظها أحرز دينه: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات.
فأما اللحظات فهي: النظرات وهي رائدة الشهوة ورسولها، فمن أطلق بصره أورد نفسه موارد المهلكات، وفي الحديث الحسن قال عليه الصلاة السلام: “لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى”.
والنظرة أصلُ عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد الخطرة، ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع.
قال بعضهم:
كل الحوادث مبدؤها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
أما الخطرات فشأنها أصعب فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهرا إلى الهلكات.
وهي أضر شيء على الإنسان ويتولد منها العجز والكسل، وتولد التفريط والحسرة والندم، ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير أماني باطلة “كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ”.
وأما اللفظات فهي ما يتلفظ به المرء مما يدل على ما في قلبه، حتى قيل إذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل به عليه بحركة اللسان فإنه يطلعك على ما في القلب شاء صاحبه أم أبى.
قال يحيى بن معاذ: “القلوب كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها”.
فانظر إلى المرء حين يتكلم فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه حلو وحامض وعذب وأجاج، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه، أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك حقيقة طعمه، كذلك تطلع عما في قلب الرجل من لسانه فتذوق ما في قلبه بلسانه كما تذوق ما في القدور بلسانك.
وفي الحديث الحسن سئل عليه الصلاة والسلام عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: “الفم، والفرج”.
وأما الخطوات، فإذا لم ينقل المرء قدمه إلى ما يرجوا ثوابه من الله فإنها تدفعه إلى المزلَّة والمعصية، ولما كانت العثرة عثرتين: عثرة الرِّجل وعثرة اللسان جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى: “وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً”.
فوصفهم بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم كما جمع بين اللحظات والخطرات في قوله تعالى: “يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ”.
فعليك أيها الظالم لنفسك أن تكون بوابها على هذه الأبواب الأربعة، وأن تلازم الرباط على ثغورها، فمنها يدخل عليك العدو ويجوس خلال الديار ويتَبِّر ما علا تتبيرا، فعليك بالتوبة والندم والعمل الصالح حتى تخرج بنفسك إلى مقام المقتصدين أو السابقين إلى رب العالمين.