حينما تكون أمة الوسط في ذيل الركب عبد المغيث موحد

عجيب أمر هذه الأمة، هي أمة ليست كسائر الأمم، أمة شاهدة على أهل الأرض، أمة وسط، أمة موصولة بالله تملك الحق ودليله، وهو ما لا تملكه سائر الأمم، وتعرف الباطل وحبائله، أمة خصَّها الله بالإسلام، ذلك الدين القيِّم الذي ربط الأرض بالسماء، ربطها بخيط الرحمة والغيرة على حرمة الحق، والحرص على مكثه متَّقِدَ الشعلة، يضيء للحيارى فجاج المسير، ويحفظ لبؤرة الإيمان عناصر النور والهدى، ثم يضفي على هذا القبس مظاهر التمازج والتماسك، الذي يرد غوائل الجَور، ويحول دون وقوب غسق الجاهلية، ويدفع شر ما خُلق، ويصدُّ كيد النفاثين في عقد الغي، ويسوم الحاسدين سوء العذاب، ويبشر الأفاكين بشر المنقلب ووبال العاقبة.
هي أمة بعث الله فيها رسولا خاتِما ومبشرا ونذيرا، رسالته ناسخة لما قبلها غير منسوخة ما دامت السماوات والأرض، فيا له من إيجاد وياله من إمداد..، فعجيب أن نرى هذه الأمة اليوم في ذيل الركب، تستجدي الإطعام من الجوع من أكلة السحت، وتنشد الأمن من الخوف من المتجبرين بغير حق، وهي اليوم ظاهر مريض وباطن موبوء، فما أبعد هذا اليوم عن ذلك الأمس التليد، يوم كانت شجرة أسلافنا ظِلا ظليلا لكل الفارين من سطوة الاستبداد، الهاربين من شقوة الاستعباد، الباحثين عن أترجَّة الإيمان، وفيء الإسلام، الساعين لتحقيق زحزحة الفوز: “فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ”.
والأعجب من هذا كله أمر هذه الطفيليات الجلدية، التي لا تتورع عن نعت ذلك الماضي المشرف بالرجعية والظلامية، وتصف ذلك الماضي النفيس بكل وصف رخيص، وإذا سلطت عليها أشعة “النيون” بادرت إلى إلصاق التهم الجزافية بإسلامنا العظيم البريء، فألسنتهم العوسجية، وصدورهم الحبلى بالبغض، وبصيرتهم العشواء تتحسس أسباب تخلفنا في هذا الفكر الظلامي كما يزعمون.
ففي الوقت الذي سادت فيه مدنية الصقيع، ووطئت حوافر الرجل الأبيض أديمَ القمر، لا يزال منا نحن المتخلفون من يتكلم عن التيمُّنَ والخبث والخبائث والحجاب، وحف الشارب، وإعفاء اللحية، ثم يتساءلون بخبث طوية:
هل عصر السرعة عصر الطائرة النفاثة لا يزال فيه مجال للكلام عن الحلال والحرام والولاء والبراء؟
وهل عصر النهضة عصر إطلاق الطاقة الكامنة في الإنسان المتحرر تسمح لسلطان المقدس وحاكمية الأخلاق أن تضيق الطوق حول رقبة الإبداع والحداثة؟ هيهات يقولون هيهات!!
ونحن إذ نسفه هذه الأضغاث التي هي من جنس ما تفرزه أحلام اليقظة، ندعو أصحاب هذا الاتهام وهم الذين لم يطئوا أديم قمر، ولم يضيفوا للإبرة سَم خياطها، ندعوهم إلى حوار هادئ وكلمة مسالمة، ونقول لهم: بنو جلدتنا كلامكم هذا يحتاج إلى برهان، فملامح اليُتْمِ وسِمات الحاجة ريحها يزكم أنوف المنصفين، فإننا والله وبالله وتالله لنعلم أن الكثير منكم يخالف ليعرف، ويفتري ليركب سيارة ذات الدفع الرباعي، ويُطَوِّق جِيده بربطة العنق عنوانِ أناقة عشيرته “الطَوطَمِيَّة”، ويلحق نسمة صلبه بالمدارس الإفرنجية والمسابح والمكيفات الهوائية والكلاب المستهجنة، وهذا في ديننا من المباح الذي إذا تاقت إليه نفوسنا نطلبه من عند من عطاؤه “كن” ومنعه “كن”، ولكن الحرام أن تطلبوه على حساب هويتكم وعقيدتكم، فيكون العطاء على قدر تطاوعكم، والنوال على مدى تجرئكم على هذا الدين القيِّم، فما أبأسكم، وما أشبه لذتكم الكسبية بلذة المجروب إذا أوغل ظفره في جلده المصاب، ونحن حينها نعود المرة تلو الأخرى إلى تلك القرون المشهود لها بالخيرية، لا نرجع إليها اعتباطا، بل نرجع مدفوعين بمسوغات عقلية وواقعية، والتاريخ بيننا وبينكم أيها العقلانيون الواقعيون، يشهد شهادة لا ريب فيها بأن دولة المسلمين التي قامت في صدر الإسلام، دولة عاشت مفهوم الحضارة حقيقة لا مجازا، حضارة كانت تجبى إليها مكوس الأرض، حضارة عاش في ظلها الإنسان حياة سادها العدل والمساواة والتكافل، وتذوق المسلمون وغيرهم من أهل الجزية معان الرحمة والمنعة، ومظاهر العز والقوة الرادعة..
فهل هذه هي الظلامية؟
فإذا كانت كذلك فالحمد لله الذي جعل لنا ظلمة الليل لباسا وسكنا، ثم بعد هذا الحمد ألا يصح لنا أن نستفهم عن نورانية القوم التي ما فتئوا يطنطنون بها، وعن معايشة النهار التي ينسبونها لأيامهم، فهل عن نورانية تلك الطباع الممسوخة التي نضحت بها ثقافتهم، ثقافة القشور والعري والسفور وأنشطة الفجور ومهرجانات المزمور..، أجنة مستنسخة خرجت من أرحام عقيمة، حملها كاذب، ونفخها يحوي مشاريع تصبو إلى تدثير الإسلام في أكفان المنايا، وإراحة الأجيال المستهجنة من فرائضه ونوافله، وجعلهم بعد ذلك ضحية لكل منكر مقدور، ووحل مكدور..، حينها تكون أمتنا كتلك الفرس التي هجن رحمها بماء حمار فأفلح هذا التلقيح في إنتاج جيل من البغال ليس بينها وبين عرقها الأصيل صلة محفوظة، ولا نسبة ملحوظة، فلا هي إلى الخيول تنسب، ولا على الحمير تحسب، حينها فقط لا تتعجب إذا كانت أمتك الموصولة بالله في ذيل الركب، فإنك بفضل الله ومنته قد وقفت على السبب الذي أبطل العجب، واللبيب تكفيه الإشارة، وتغنيه في مقام الدفع عن ألف عبارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *