حتى لا نكون نحن الطعام على موائد اللئام محمد بوقنطار

إن مجتمعا “ما” تقوده بمنطق القدوة والتوجيه بمنارات التفوق المزيف والنجاح المحرف، جوقة الفنانين والعابثين ويتقدمه الراقصون والراقصات والطباخون والطباخات… من الذين ما فتئ الإعلام البئيس يضفي عليهم -جنسا ونوعا- صبغة النجومية وصفات التميز والاصطفاء الذي يحتكر أهله الدلالة الرمزية للثقافة ومنسوبها المعرفي، كما يحتكر تجليات النجاح ومئنات الرفاه التي يهرول في مسعى تحقيقها كل صاحب نفس منفوسة، هو مجتمع -لا محالةـ حري به أن يتذيل قوائم الترتيب، ويتوطن الدركات الدنيا، ويتسفل اسمه ورسمه في مراتب التصنيفات الدولية الساخرة في شماتة، وذلك في ميادين التعليم والصحة والقضاء، بله ويتسوّل المناهج والأدواء والقوانين.
ولعله ترد تذكيه وتزيد من حجم مأساته السيولات المالية الحكومية المرصودة للنهوض بهذه القطاعات الحيوية الحساسة، وربما تبيّن حجم هذه السيولات ودورها الفاعل في إبقاء الوضع المأساوي قائما بعَوْدٍ على بدء متكرر، وذلك من خلال مقارنتها بالسخاء والجود وكبير العطاء من أغلفة الصدقات الخيالية التي تجود بها الشركات العملاقة والداعمة لمهرجانات الثقافة في ثوبها الجديد على معشر المشاركين والمشاركات في هذا النوع من الفن الماخوري إن جاز التعبير، ونعني به ثوب الرقص والغناء والمجون.
وقد لا نبالغ إذا ما أقررنا إجمالا أن حجم صدقة من هذه الصدقات قد يفوق حجم الميزانية المرصودة للبحث العلمي الذي يخص المستوى الجامعي بالاطراد على امتداد خارطة طريق الجغرافية الإسلامية، ولعل سائلا يمكنه أن يستفسر عن سبب رفع وزارة الثقافة ببلادنا مثالا لا حصرا يد الدعم عن مشاريع النشر والإنتاج الثقافي الذي يخص القصة والرواية والمنتوج الأدبي عموما، في مقابل ضخ الأرقام المالية والأرصدة الخيالية في جيب المخرجين والمنتجين للأفلام السينمائية المفلسة، والتي بات همّها الأول والأخير هو إشباع النزوات المريضة وتشنيف الآذان بمقذور ومتفحش الكلام، والصورة المتسفلة في كل نقيصة تحت زعم ودعوى نقل الواقع وتجنب النفاق الاجتماعي، ومعالجة حالة الفصام التي يعاني منها المجتمع التقليدي، واقتحام عقبة المقدس وتكسير طوقها الجاثم على النفوس والأبدان والإنسان.
ولعلنا قد لا نملك حق الاستفسار -إقرارا وإنكارا- من معلم أو قاض أو طبيب انسلخ عن آيات المسنود إليه بميثاق كان ضابطه حتى الأمس القريب إحساس كل واحد من هؤلاء الثلاثة بشرف العلم وشرف المعلوم وعظيم الوظيفة ومجانية المبدأ ورجحان الاحتساب وكفاية كريم الاكتساب، في غمرة إحساس كل واحد من هؤلاء بل عيشهم وتذوقهم لمعاني الغربة والمسكنة في الحياة والمماة، وفي الفرح والقرح، وفي المحنة والمنحة، وفي العطية والرزية…
ولك بعد هذا أن تسأل عن نكسات الإعلام بين حزن وفرح صوته وصورته ومحبور ورقه متى ما مرض فنان أو ماتت مغنية أو تزوج ممثل أو سافرت راقصة… وبعد السؤال تطيب المقارنة وقوفا على تعمد ومقصود الغفلة والتناسي والتغاضي، وجحود ونكران عين الإعلام وسمعه وبطش يده لأخبار الصالحين والأخيار سواء محياهم ومماتهم، فرحهم وقرحهم، تضحياتهم ومجاهدتهم.
ولسنا بهذا الكلام نروم تسويغ ما حصل من ارتداد وتصدع في صرح ومأوى الكيانات الثلاثة، وغيرها من القطاعات التي أصابتها العدوى وتأثرت تباعا، أو تبرير ذلك الانسلاخ الذي كاد أن يستوعب الأفاضل والأخيار من هذه الكيانات، ومن الطاقات البشرية المضيئة في غيرها.
إذ لا حجة ولا عذر يرفع المسائلة، ويعفي من المحاسبة، سواء هنا إن تسنت الظروف وصحّت الضمائر وسلمت الإرادات، أو هناك أمام رب حكيم عادل سبحانه وتعالى حيث أمر الحساب واقع ليس له من دافع، فالطبيب يبقى هو الطبيب، والمعلم الذي كاد أن يكون رسولا يبقى هو المعلم، والقاضي من أصنافه الثلاثة يبقى هو القاضي، لا يستوون مثلا مع من اختار الإتراف مهنة والفساد حرفة والإفساد وظيفة…
فليس إذن ثمة عذر يفتح في وجه من يملكون من المعطيات العلمية والإنسانية والدينية -من جهة امتياز الانتساب إلى هذا الدين العظيم- فهم أجدر وأقدر من غيرهم في تقدير نعمة الله عليهم، واستشراف نتائج العبث بها، والغش والتطفيف بعد قبول حمل أمانتها، تلك الأمانة التي تأبّتها السماوات والأرض والجبال عند عرضها عليها…
ويبقى المراد والمقصود إذن هو محاولة تقريب الصورة الموبوءة التي حصل في مناخها هذا التردي وذلك الانسلاخ، ومن ثم شق الستائر عن الشُبه المسؤولة عن إنتاج هذه الانحرافات، والمنكرات التي كان السلف قلّما يرونها، فأصبحت اليوم كثيرا ما ترانا وتطل علينا وتقتحم علينا الخلوات والجلوات، وتتسوّر علينا محاريب البيوت التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان.
هذه البيوت التي كان يزيد في أمنها وتراصها وقر الأم في بيتها، وقوامة الأب المسؤول عن أبنائه وبناته صونا ورعاية وغيرة وحماية، ووقاية من التربية التي حل فيها الإعلام البئيس محل الأبوة، يوجه ويأمر وينهى ويؤثر عبر صناعة القدوات الملغومة، وإضفاء طابع الاستعلاء والأثرة عليها، كأوثان أرضية تطاع ولا تعصى، وتجبى إليها المداخيل والمحاصيل والهدايا والقرابين، التي حوّلت المجتمعات باسم الفن والإبداع والثقافة إلى مواخير تعج بألوان وأضراب من النقائص والموبقات والمهلكات.
ولا شك أن هذا التعريج على ذكر البيت والأسرة لم يكن طفرة في السياق، أو انتقالا ارتجاليا لم تدع إليه الحاجة أو المناسبة، وإنما الحكمة تحض في مقصود سبر غور الداء على العودة إلى أصل الاعوجاج وبدايات الإقعاد، فالطبيب والمعلم والقاضي وحبل المعطوفات من الجنس والنوع المكون للوظيفة والمهنة والحرفة ما هم في الأخير إلا أطفال وُلدوا وشبوا وترعرعوا في وسط أسري علّق عليه ديننا كامل المسؤولية، عبر ما لا يخفى من النصوص المتواترة كقول نبينا عليه الصلاة والسلام في مقام التنبيه على سوي الفطرة :”كل مولود يولد على الفطرة فأبواه إما أن يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه “، وقوله عليه الصلاة والسلام :” ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته …والرجل راع على أهله في بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم …” الحديث (متفق عليه).
ومن هنا فلا يمكن إغفال مسؤولية الأسرة في وجود وإيجاد هذا الاعوجاج من عدمه، خاصة عند الحديث تخبيرا عن ما أصاب هذه الأسرة من تشظ وتداع وتصدع مسّ أثره المنظومة التربوية والأخلاقية، وتهافت أصاب مكونات هذا النسيج الأسري في مقتل، بفعل ترادف الضربات ومروق سهم رمية المتربصين بحصون الأمة لعقود من الزمن خلت، ذلك السهم المصوّب في عمد وسوء طوية إلى نحر هذا النسيج الحساس من الأمة.
وهي للإشارة ضربات استوعب خبطها حتى الأسرة في البادية ومحيطها القروي، بفعل ما عُرف بمشروع كهربة العالم القروي أو مشروع إيصال وتوصيل التلفزة إلى معشر القرويين بأدق تعبير، وهو المشروع الذي لبس أو أُلبس إهابا ذا طابع خيري وإصلاحي وإغاثي، من جهة أنه مشروع استفاد -كما أفادت يومها الجرائد والصحف الوطنيةـ من منح ومساعدات مادية أجنبية، وهي الاستفادة التي تطرح أكثر من سؤال، خصوصا عند الوقوف على ما شهده هذا النسيج، بل البيت القروي من تغيّرات ومظاهر تحديث، حيث اعتلت سطوحه الطينية والصفيحية المقعرات الهوائية اللاقطة لوافدات الأثير الغربية، والغريبة على أعراف وتقاليد ومألوفات الساكنة القروية، والعابثة بفطرها السوية، والبعيدة كل البعد عن برامج وأهداف القروض الفلاحية الربوية التي أهلكت الحرث والنسل، ولسنا في حاجة بعد الإشارة إلى هذا التغيير برمزية الاعتلاء إلى أن نخوض في تفاصيل النتائج وملامح الإفلاس الخلقي التي عرفها المجتمع القروي، فلا شيء بعد هذا الاستعلاء صار وراء الأكمة.
وهو للذكر والذكرى عين الاعتلاء الذي يمارسه المترفون من قدوات آخر الزمن، عندما يشعلون السروج ويسوِّرون أذرعهم بالشارات الحمراء ويعصبون نواصيهم بالسواد، ويقطعون الطرقات في وقفاتهم الاحتجاجية، مساندة منهم لحقوق المثليين والملاحدة والمجاهرين بالإفطار.
وعندما يقتحمون على الأب عرين قوامته ليقبل بالذل والمهانة في نسمة الصلب التي أسموها ويسمونها في أدبيات دياثتهم “الأم العازب” والمنتجة باستهلال سفاح لِـ”أبناء العلاقة الحميمية”.
وهلم جرا من الضغوط والانتهاكات التي تحكي بالصوت والصورة والرائحة مأساتنا مع مؤسسة الرويبضة في ظل وظرف وظروف الأيام الخداعات الأكالة للحقوق، والمسيئة في اجتراء وافتراء للأشخاص والمبادئ…
وإن آخر زعم كنا نتوقع سماعه من المفسدين باسم الإصلاح هو دعواهم وزعمهم أنهم حماة للحياة الإنسانية، بل حماسهم في حماية وصون هذه الحياة، بله حرصهم في أن نحيا في كنف نزواتهم، وأن ننحني ونقبل بوصايتهم لننعم في مقابل هذا الانحناء بالعيش في ظل مدنيتهم العامرة بكل شيء عدا اليقين والطهر والعفاف والسبيل المستقيم، وأن نقارن بتفضيل وترجيح ما هم عليه من ضلالات على ما لدينا من إشراقات إيمانية ونبل رسالة، وكبير انتساب إلى هذا الدين العظيم… وبأقوم تعبير وأصرح عبارة: أن نصير بطبيبنا وقاضينا ومعلمنا أيتاما في مأدبة حرام تداعى على قصعتها اللئام، ولربما طال الأمد فصرنا نحن الطعام الحرام الذي يوضع على موائد هؤلاء اللئام…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *