الإرث المقـدس حامد المسوحلي الإدريسي

لقد تغير “نظام التشغيل” الذي كان يسير المجتمع، ولذلك حصل خلل كبير في كل أرجاء المجتمع ونواحي العيش، وصار المغرب لأول مرة في تاريخه يعاني من حالات الانتحار المتزايدة، وصار لدينا دور عجزة، ووصلنا إلى 30 لقيطا في اليوم، وانتشر الإدمان، وطارت القوامة، وضرب مفهوم الأبوة..

 إن حقيقة الإنسان هو تلك الصفات المتوارثة التي يتناقلها الجيل عن الجيل، وهي ما تحدد هويته، وبالتالي فهي ما يحدد كينونته الحقيقية، بحيث يصير له انتماء إلى فئة من الناس، إما إلى بلد أو قبيلة أو عرق أو دين أو تاريخ، بل في الحقيقة ينتمي لكل ذلك، لأن دوائر الانتماء تتداخل فيها كل تلك المحددات، فكل مغربي هو مغربي لهذه العناصر السابقة، وكل فرنسي هو فرنسي لنفس العناصر، وحين نتحدث عن كيان بشري فهو عبارة عن تماسك هذه العناصر وظهورها كي يصير لدينا مجتمعات متنوعة، وهذا ما يعطي أي مجتمع من البشر قوته وتماسكه وقدرته على مقاومة الاختراق…

لعلي حاولت أن ألخص في الفترة السابقة على شكل مقدمة مجموعة من مبادئ علم الاجتماع والتي تشكل ما يسمى بالهوية، التي هي كالضمير الجمعي للأمة، بحيث تكون هذه الهوية معيارا للقيم، وبالتالي تشكل هذه الهوية سياجا يحفظ تماسك هذه الأمة من الناس، تصور أن الهوية هي الأب الكلي الذي ينتمي إليه أفراد المجتمع، يتسمون باسمه ويجتمعون في حضنه ويلتزمون بأوامره…

إن الهوية هي سقف المجتمع، وتحته تنضوي منظومة القيم التي تتحول إلى سلوكيات تضبط حياة الناس من خلال تحديد ما هو مناسب وما هو غير مناسب، ما يجوز وما لا يجوز، ما يقبله العرف وما يرفضه، فهي إذن السقف الحاضن لكل السلوكيات والمعاملات والتعاقدات في المجتمع، وبما أن المجتمع ما هو إلا مجموعة أسر، وبما أن الأسرة لا تبدأ إلا من جلسة العقد التي تصهر عنصرين من المجتمع في عملية “مصاهرة” فيمكننا أن نعتبر هذه الجلسة ميلاد جزء من أجزاء المجتمع، وبالتالي انهيار الأسرة انهيار قطعة من هذا المجتمع..

تعال معي قليلا إلى بيت كبير، ولتتأمل تماسكه وقوته وصلابته وجماله، هكذا يبدو المجتمع من الخارج، فإذا طلبت منك أن تهدم هذا البيت فإن أول شيء ستبدأ به هو تلك اللبنات تنقضها واحدة واحدة، إلى أن يسقط ذلك البناء الجميل، من هنا فإن كل زواج جديد هو ياجورة جديدة تأخذ مكانها من البناء، وكل انفصال هو ياجورة أزيلت من مكانها وحفرة صغيرة ظهرت في هذا البيت الكبير.

إن مشروع إبليس أن يحتنك ذرية آدم ويسوقها إلى حيث يريد {لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا} لذلك فإن إبليس حريص على منع الزواج وعلى تحديد النسل حتى لا يزداد عبؤه، فكل مولود مسلم هو تحد جديد ومهمة جديدة تحتاج شيطانا صغيرا ليتابع هذا الملف ويضبطه كي لا يخرج عن السرب، من أجل هذا فإن أعظم إنجاز يحققه إبليس أن يفرق بين المرء وزوجه. إذا فهمت هذا ستدرك أهمية الأسرة في الإسلام، ولماذا اهتم القرآن بأدق تفاصيل الحياة الزوجية…

هذه التصرفات التي تجعلك تحترم الكبير وتجعل الصغير يوقرك، وتعلمك ما ينبغي تجاه الجار وتجاه الأقارب، وما تقوله في هذا الموقف وما تجيب به من بادرك بموقف ما، هي مجموعة ضمن كتيب صغير مدمج في عقلك الباطن، أسميه “نظام التشغيل” ويسميه الشرع “عرفا” قد كتب على مر السنين، وتراكمت فيه الخبرات والمؤثرات الاجتماعية والدينية، حتى أصبح دستورا خفيا يحترمه المجتمع ويعمل وفق قوانينه وتعاليمه، فالرجل يكرم أباه كي لا يكون مسخوط الوالدين، والمرأة تلبس الجلابية والقب والنقاب، لأنه هكذا ينبغي أن تكون حسب نظام التشغيل، وهي تمشي على استحياء كي توصف بأنها “بنت الأصول” وكي لا يثبت على صفحتها شيء مما يلطخ سمعتها، ثم يأتي الخطاب الديني ليعزز هذه المنظومة ويربطها بنظام الثواب والعقاب الأخروي، بينما هي في الأصل نظام عيش متكامل مستمد من الشريعة والتجربة والحكمة القديمة المتوارثة. إن الدين مكمل أساسي لهذا النظام، فهو الذي يعطيه البعد الأخروي وهو الذي يصلح منه ما فسد بسبب انحراف المجتمع، وهو –أي الدين- الذي يمثل الرقابة الذاتية لضمير الإنسان وضمير المجتمع….

“نظام التشغيل” هذا، هو ما كان يجعل الأسر مستقرة تمام الاستقرار، لأن الرجل عندما يتقدم لخطبة فتاة، فإنه لن يحتاج أن يعلمها كيفية التعامل معه ومع أقاربه وما هي مسؤولياتها وما هي واجباته، لقد كانا يعملان كلاهما بنفس “نظام التشغيل” وبالتالي لا يحتاجان إلى دورات أو خبرات أو كتيبات، وليسا بحاجة إلى فترة تفاهم تسبق الزواج، بل قد تجدهما أميّين لم يتعلما، ومع ذلك يعيشان في أسرة مستقرة ويقضيان حياتهما في غاية التكامل.

لم يكن هذا النظام يدرس في المدارس أو يتعلم عند المعلمين، لقد كان نظاما متوارثا تتوارثه الأم عن أمها عن جدتها إلى ما لا نهاية، ولقد كان هذا النظام شاملا لكل شيء، فيه الأخلاق العامة ونظام العيش والطبخ والصحة وطريقة تربية الطفل وطريقة إدارة المنزل، والإدارة المالية للموارد، وكيفية إعداد مؤونة العام، وبسبب هذا النظام كانت الأم قادرة على تربية عشرة أبناء، كلهم أصحاء متوازنون…

لقد عبث أحدهم بهذا الكتيب، واستبدل “نظام التشغيل” بنظام جديد، وأول ما عمله هذا المجرم أن قطع الصلة بين الجيل الجديد وبين هذا الموروث المقدس، فجعله أولا ينظر إليه بازدراء، حيث تصورت الفتاة أم أمها لا تعرف الحب ولم تعش شيئا في هذه الحياة، وتصور الشاب أن أباه الوفي يعيش حياة بليدة تنقصها المغامرات العاطفية، وبعد هذه القطيعة تمت عملية التشويه، ثم تمت عملية الاستبدال شيئا فشيئا…

هذا الاستبدال يمكن أن تشاهده في صورة واضحة إذ تمشي امرأة في الستين من عمرها بنقابها وقبها على رأسها إلى جانب فتاة في الثلاثين تلبس سروالا وقميصا وتسريحة عصرية بجانب فتاة في عقدها الثاني تلبس فوق الفخذين وقميصا معلقا وشعرا منكوشا بلا زينة ولا مكياج، لترى في هذه الأجيال الثلاثة مراحل واضحة لمراحل الإحراق لهذا الكتيب الصغير، وترى مراحل العلمنة وأثرها على جيلين أو ثلاثة…

ويظهر هذا الاستبدال بشكل صارخ في الحياة الزوجية، فبعد أن كان الزوج هو سيد البيت، صار للبيت سيدان، وبعد أن كانت الحياة الزوجية مبنية على القوامة، صارت مبنية على الشراكة، وبعد أن كانت زوجة صارت شريكة عمر، وبعد أن كان الرجل هو المنفق صار متكلا عليها في سد حاجات البيت، وبعد أن كانت المرأة ترى أن هدفها الأول في هذه الحياة هو الزواج وتكوين أسرة، صار هذا معيقا لها عن دراستها ومشغلا لها عن تحقيق أهدافها، وبعد أن كان الزوج هو “زمانها” ، صار مجرد شخص تجمعهما علاقة حب في الحلال، حتى إذا انتهى الحب وجب عليها أن تغادر هذا المكان الذي لم تعد تشعر فيه بالرومانسية، وهكذا غابت قيم الأسرة القديمة المتجلية في التضحية والتفاني حيث كانت المرأة لا شيء بدون زوجها، وما دامت اليوم تملك عملا ومالا فما حاجتها إلى رجل لم تعد تحبه…

نعم لقد تغير “نظام التشغيل” الذي كان يسير المجتمع، ولذلك حصل خلل كبير في كل أرجاء المجتمع ونواحي العيش، وصار المغرب لأول مرة في تاريخه يعاني من حالات الانتحار المتزايدة، وصار لدينا دور عجزة، ووصلنا إلى 30 لقيطا في اليوم، وانتشر الإدمان وطارت القوامة وضرب مفهوم الأبوة، وكثر قطاع الطرق وحصل زلزال أخلاقي شتت هذا البناء وقلبه رأسا على عقب، وأصبح الشاب يجد نفسه في بداية الحياة محتاجا إلى أن يبني لنفسه نظام تشغيل خاص به، يجرب فيه عقله وخبراته البسيطة، بينما كان لديه كنز متكامل يحدد له كل ما يحتاج إليه …

فعلا لقد فقدنا إرثنا المقدس…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *