وماذا مرة أخرى عن طريقة الجنيد؟
كل طريقة صوفية محدثة في الملة لها جانبان مثل الدين في الجملة. جانب نظري، وجانب تطبيقي. والمغاربة يجهلون الجانبين كليهما عند الجنيد وخاصة من يزعمون منهم أنهم من أتباعه.
في عام 1976م صدر كتاب “نصوص فلسفية” تحت إشراف وتصدير الدكتور عثمان أمين. مهداة إلى الدكتور إبراهيم مذكور. ومن ضمن محتوياته كتاب “دواء التفريط” من كلام الجنيد، ومن تحقيق وتقديم الدكتور علي حسن عبد القادر. وعبر قراءة تقديمه للكتاب يتضح لنا الوجه الصوفي الحقيقي للجنيد الذي أكدنا مرارا بأن المغاربة يجهلونه.
قال: “هذه الرسالة التي تنشر لأول مرة “دواء التفريط” هي إحدى رسائل الجنيد بن محمد. تلك الرسائل التي يتطلع العلماء والباحثون إلى كشفها. وعلى الأخص بعد ما نشرت أخيرا رسائله الفريدة لأول مرة (عام 1962م) وكانت حدثا هاما في الأوساط العلمية، بما أحدثته من تغيير كبير في الفهم التقليدي للتصوف الإسلامي، وبما ألقته من أضواء جديدة على أسراره ومراحله الأولى.
لقد بقيت هذه الرسائل مكتومة عند الأجيال طيلة هذه القرون، لما احتوته من دقائق ترتفع في أذهان العامة (أي لا تعرفها). وتكاد تكون لغير الخاصة العارفين انحرافا عن جادة الدين (لأنها تتناقض مع قضايا منه!) وربما ضللت كثيرا ممن أساء فهمها أو أساء استعمالها من المتكلفين أو المتهورين.
وقد قيل إن الجنيد كان يحرص على أن يتحدث إلى أصحابه في جلسات مقفولة (لماذا؟) وأنه حرص على ألا تداع رسائله بين عامة الناس (لماذا؟) ومن أجل هذا لم يتعثر في أثناء المحن التي صادفها الصوفية في عصره لتماسكه وعدم اندفاعه في تيارات مشبوهة أو مغرضة (التجأ إلى العمل في السر؟) واستطاع في الوقت نفسه أن يخلص إلى التوفيق بين منهج الدين والقرآن، وبين المعرفة الصوفية والتوحيد الخاص (تمييزا له عن التوحيد العام!) الأمر الذي أعطى التصوف الإسلامي أصالته وقبوله عند المسلمين خاصتهم وعامتهم (= قبلوا ما ظهر ولم يعرفوا ما بطن!).
والواقع أنه لم يكن أمرا سهلا للصوفية أن يوفقوا بين نظرياتهم وبين تعاليم الإسلام (لكنهم حاولوا التلفيق!). بين فكرة التجريد والتفريد للألوهية، وإثبات وجود خارجي فيما وراء هذا العالم. وبين فكرة أن الألوهية حالة في كل شيء إثبات وجود حقيقي واحد هو كل موجود. هذه الفكرة التي تنتهي إلى فكرة وحدة الوجود والحلول. ثم ما يتبع هذا من أنه إذا كان هناك وجود واحد وأنه ليس هناك عبد ومعبود. فهل يمكن الحديث عن واجبات وحقوق شرعية لمن لا وجود له؟ وكما قالوا: إن العبد إذا وصل صار حرا وإذا صار حرا سقطت عنه العبودية (=أصبح هو نفسه الإله) وهي فكرة أهل الإباحة.
فكيف استطاع الجنيد وسط هذه التيارات المختلفة أن يحقق التوفيق بين التصوف وتعاليم الإسلام، أو كيف استطاع أن يفلت مما لم يفلت منه غيره (=ممن هم متسلحون بنفس قناعته) أمثال الحلاج وأبي يزيد البسطامي وأهل الإباحة أمثال رباح وكليب”.
إنه تقديم جد ثمين يضعنا وجها لوجه أمام الجنيد الآخر الذي لم يعرفه المغاربة. ولو افترضنا أنهم عرفوه منذ قرون -وهم بالسنة متشبثون- ما كانوا ليدعوا أنهم تشبثوا بالطريقة التي حرص هو على إخفائها جهد مستطاعه! فقد أظهر الرجل إيمانه بضرورة التمييز بين الشريعة والحقيقة. وهو تمييز تعتبر نتائجه خطيرة على الإسلام، متى اقتفينا بدقة آثار المتمسكين به.
فالشريعة هي الدين كما وصل إلينا مجملا ومفصلا كتابا وسنة. والحقيقة ما يحمله المشايخ الصوفيون من مسمى العلوم اللدنية. يتلقونها مباشرة من الله بدون واسطة، مع ضرورة التسليم بداهة ومنطقيا بأفضلية ما جرى تلقيه مباشرة من رب العالمين بعيدا عن تدخل أي وسيط!
فإن كانت الشريعة موحى بها إلى النبي الخاتم، وكان حامل الموحى به إليه هو جبريل، فإن تلقي الأسرار أو الحقائق مباشرة من الله يختفي فيه جبريل وأي وسيط ملائكي آخر محتمل. وهذا ما فهمه الجنيد نفسه عندما تحدث عن قصة موسى مع صاحبه الخضر. فموسى نبي ورسول والخضر ولي مرشد. له من العلوم والفهوم ما عجز موسى عن إدراكه!
والنتيجة أن للولي علمين: علم كسبي (=الشريعة) كواحد من علماء الظاهر، وعلم لدني (=الحقيقة) كواحد من علماء الباطن. فتأكد لنا أن حامل علم الشريعة والحقيقة متقدم على حامل الشريعة وحدها! حتى التوحيد ذاته أنواع متعددة أوصلها الغزالي في “إحياء علوم الدين” إلى أربعة!
وما نعتبره نحن توحيدا كما هو بين في النصوص النقلية، مجرد توحيد العوام! ومن بينهم الرسول والصحابة والتابعون والعلماء! بينما توحيد الخواص خلافه! وهذا ما سوف نقدم براهين واضحة على أنه الأساس النظري البعيد الغور لمذهب الجنيد في التصوف، دون إغفال استحضار -نقلا عن غيرنا- ما اعتبر أساسا لطريقته، وما اعتبر شروطا لها، سعيا منا وراء التدليل على أن المغاربة يجهلون الجنيد، وفي الوقت ذاته لا يصح الجزم بتاتا بأنهم على طريقته!