الأعيان السياسيون و”البلوكاج” الفضيحة.. الاستقرار ها هو والإصلاح فين هو؟؟

السياسة العامة في المغرب لم تتغير كثيرا عمّا كانت عليه، عندما كان المغرب ليس فيه كهرباء ولا سكة حديد، ولا إسفلت ولا ماكدونالد، عندما كان السلطان عبد العزيز يستمتع في قصر فاس بركوب الدراجة الهوائية، ويلعب بمستجدات الحضارة الغربية مثل آلات التصوير التي كان يتنافس في جلبها سماسرة القصور الإنجليز والفرنسيين.
ويمكننا أن نجزم أن كل شيء تغير إلا السياسة العامة، تغيرت المرأة، وتحطمت كل الأسوار والقلاع التي كانت تحميها، نزعت الحايك ثم الجلباب ثم التنورات الطويلة، وخرجت من وصاية الأقارب لتدخل في سخرة الأجانب.
خرجت من بيتها لتدرس وتتعلم، لكنها دخلت إلى معامل البؤس حيث الاستغلال والتحرش، خرجت بدعوى أنها مقهورة في الكنس والغسيل وتربية الأولاد وتبعل الزوج، لكنها دخلت إلى المقاهي نادلة تغسل يومها كاملا كؤوس القهوة، وتمسح الطاولات وتجمع بقايا السجائر بعد أن تُدخل نفسها سراويلَ “الدجينز” الضيقة لتظهر إليتيها وتفاصيل عورتها المغلظة، وترتدي “تيشيرتات” حازقة لتبرز صدرها، حتى تجذب الزبناء الذين يتلصصون من جيب صدرها كلما مرت عليهن، ثم بعد امتهان وإذلال يرمون لها درهما أو درهمين.
وأخريات خرجن من قهر البيت وسوء معاملة الزوج العاطل، ليشتغلن في شركات النظافة يكنسون الواجهات وممرات المستشفيات والشركات، ليعدن مساء منهكات مكسورات الخاطر، يجررن أذيال الهم والقهر.
صحيح أن بعض النساء تعلمن العلوم ودرسن في الجامعات، بل أصبحن مديرات ووزيرات ورئيسات وقاضيات، لكن عددهن لا يساوي عدد العاملات المقهورات في واحد من معامل الدار البيضاء، أما أغلب النساء العاملات ففي شركات النظافة ومعامل التصنيع والمقاهي والبارات والفنادق والمواخير وبيوت الدعارة.
لم تتغير المرأة وحدها، بل تغير الرجال، لكن ما تغير في النساء أكثر ويدل على تغير أكبر في الرجال، فهو المسؤول الأول وكل انحراف في النساء إلا ويتحمل مسؤوليته الرجال.
لم أكن أريد أن أتحدث عن النساء، بل على السياسات العامة، لكن وجدتني أقتحم موضوع المرأة مجبرا، ربما لأنها العنوان الأبرز على فشل السياسات العامة التي كرست الجهل والقهر والاستغلال، فالمرأة في المغرب هي وجه السياسة القبيح الذي نقرأ فيه ملامح جرائم السياسات العامة، وتداعيات تفتيت البنيات الاجتماعية، ونتائج تعطيل الشريعة، وخلاصات مزيج الاستبداد والظلم الذي عاشه المغاربة طيلة عقود الاحتلال والاستقلال.
فلا شيء تغير، على المستوى السياسي، فعندما دخل المحتل وجد النظام يشتغل وفق سياسة الأعيان والمزج بين مصالح النظام ومصالح العائلات المخزنية، ولم يخرج حتى أرسى دولة “حديثة”: قوانين وإدارات، مدارس ومستشفيات، معامل وموانئ، لكن على المستوى السياسي ظل يعمل طيلة حياته بسياسة الأعيان التي وجدها معمولا بها لم يغيرها لأنها تناسب سياسة استغلاله، ولا تعطي القرار إلا لمن يرتضيه.
الجنرال “كاترو” هو أحد الضباط الكبار ورجال ليوطي الأوفياء، عاش معه كل سنوات حكمه للمغرب، وباشر تنزيله لنظريته في السياسة، يقول في كتابه “ليوطي المغربي” ص60: (توجد هنا نظرية الحماية برمتها، والتي سيطبقها ليوطي في المغرب،…، توجد “طبقة حاكمة” وهي طبقة الأعيان، تنتج عادة الأطر الإدارية والحكومية؛ ثم هناك “قوة اجتماعية كبرى”، أي قوة السلطان الزمنية والروحية، فهو أمير المؤمنين؛ إذ يجب “الحكم مع المخزن وليس ضده” واستعمال سلطة الملك كدعامة سياسية).
إذاً، فالعائلات المخزنية أو الأعيان، هم “الطبقة الحاكمة”، كما أخبرنا الجنرال “كاترو”، ويعتبرون من أهم الفاعلين في الشأن السياسي، حيث يتم تدبير الحكم عبر ما توفره هذه العائلات من أُطر ينضاف إلى ما تراكمه من ثروات، الأمر الذي يؤهلها لكي تكون شريكا في وضع السياسات الاقتصادية، وأخذ القرارات وتنفيذ البرامج كل ذلك وفق إرادة “القوة الاجتماعية الكبرى” التي تحدث عنها “كاترو”.
تَجذُّر سياسات الأعيان هذه هي التي دفعت السيد بنكيران إلى سياسة “عَفَا الله عنا سلف”، فهل يمكن للسيد بنكيران ولو كان السيد الرميد وزير العدل من حزبه أن يقبض على ياسمينة بادو وعلي الفاسي الفهري، كنموذج صغير لجحافل أبناء الأعيان الذين أصبحوا في العهد الجديد، من الأعيان أنفسهم، لماذا لم يستطع السيد الرميد إرجاع خالد اعليوة إلى زنزانته، بعد أن تلقى التعازي في أمه رحمها الله؟؟
إن الدولة ليست هي الوزارات التي لايزال نصف وزرائها تيقنوقراط، أي يعينون من الأعيان وليس من المنتخبين -مع تسامح طفيف في مفهوم الأعيان-؛ الدولة هي المكاتب الوطنية والشركات الكبرى والهيئات، كالمكتب الشريف للفوسفاط وصندوق الإيداع والتدبير، وبنك المغرب، وغيرها كثير، فكيف يمكن أن توصلنا “ديمقراطية الكيلو” هذه، إلى فرض الشفافية والمحاسبة على جيوش الأعيان التي تدير العشرات من المؤسسات العمومية؟؟
إن البلوكاج السياسي لا يجب أن تُبحث أسبابُه في الواجهة الديمقراطية والحزبية، ولا في تصريحات شباط الموريتانية أو هلوسات السياسي المحنك لشگر، ولا في نتائج 7 من أكتوبر، ولا في زيت المصباح ولا حوافر الحصان ولا أسطر الكتاب ولا ريش الحمامة، كما لا ينبغي أن تُبحث حلول البلوكاج في فصول الدستور، أو هرطقات “فقهاء” القانون.
فأسباب “البلوكاج” تكمن هنالك بعيدا في سوق المال والأعمال، في الهولدينگات، في الشركات التي تحدد أسعار البترول وفق ما يشتهي أربابها لا وفق القرارات الحكومية.
كما أن الحلول تكمن هناك في زيارات المستشارين ومفاوضات رؤساء الطبقة الحاكمة والقوة الاجتماعية الكبرى.
فالسيد أخنوش مثلا: هل يسرح ويمرح في السياسة المغربية، لأنه زعيم سياسي أو صاحب تاريخ نضالي، هو كَيْتْبُورد على بنكيران، فقط لأنه من “الطبقة الحاكمة” التي تحدث عنها الجنرال “كاترو”، هذه الطبقة لا تستمد قوتها لا من القانون ولا من السياسة بل تستمدها من “القوة الاجتماعية الكبرى”، التي لم ينفع السيد بنكيران معها تسبيحه المستمر بذكر ولائه لها، حتى أصبح الناس يقولون إنه ملكي أكثر من الملك، كما لم تنفعه سياسته التي كمم بها الأفواه عندما قرر أن يسلك مسلك “الإصلاح في ظل الاستقرار”، الذي عبر عنه الجنرال كاترو بقوله: “يجب الحكم مع المخزن وليس ضده، واستعمال سلطة الملك كدعامة سياسية”.
فالكل اليوم يقول أمام هذا البلوكاج وفرض سياسة الأعيان: “الاستقرار ها هو والإصلاح فين هو؟؟”.
لقد دأب السيد بنكيران على تهدئة قواعد حزبه والمغاربة المتذمرين، بشعاره: “الإصلاح في ظل الاستقرار”، وأمضى خمس سنوات كاملة يحاول فيها فقط، أن يرسم حدود الملعب ويضع قواعد لعبة يشترك فيها مع الطبقة الحاكمة والقوة الاجتماعية الكبرى، رضي بالإذلال المتواصل حتى من صغار الموظفين أمثال سيطايل الذين يستقوون بالطبقة الحاكمة ونفوذ الدوائر المحيطة بالقوة الاجتماعية الكبرى، اتبع واقعية انبهر لها العالم، وتناولتها بالتحليل مؤسسات البحوث والاستراتيجيا، وكانت مادة سياسية في العديد من قنوات الإعلام الدولية.
لكن يبدو أن اللعبة انتهت، وأن حسابات الطبقة الحاكمة ومصالحها تأثرت من المشاريع الإصلاحية التي بدأها بنكيران، وتخشى أكثر من نجاح برامجه ومشاريعه القادمة، لهذا لم يكن لها بد من هذا البلوكاج الفضيحة، فعندما يشترط السيد أخنوش حتى يشارك في الحكومة، أن يوقف بنكيران الدعم المباشر للفقراء، ويتخلى عن حزب الاستقلال مقابل إقحام الاتحاد الدستوري، نكون فعلا أمام مقدمات انقلاب ناعم على إسلاميي المغرب، والذي يعنى الرجوع إلى مرحلة ما قبل 20 فبراير، حيث كان المعتصم في السجن وإخوانه ينتظرون دورهم لتسلم التهم.
على كل حال “ما بْقَى گد ما فات” وسنرى قريبا على أي شيء سينجلي هذا البلوكاج، خصوصا بعد ثلاث زيارات تفاوضية مع بنكيران قام بها ثلاث مستشارين للملك وهم عبد اللطيف المنوني وعمر القباج وكان آخرها زيارة فؤاد الهمة نهاية الأسبوع المنصرم.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *