إن الغاية الأولى والأخيرة من التربية هي إعداد الإنسان الصالح المنتج، المتوفر على الكفايات الضرورية التي تؤهله للاندماج في المجتمع، والتكيف مع مختلف الصعوبات والمشاكل: العادية والمستجدة، البسيطة والمركبة.
بما أن الاهتمام أصبح منصبا في القرن الواحد العشرين على العنصر البشري، أكثر من ذي قبل، وبما أن الاقتصاد العالمي بات يتجه إلى استثمار الذكاء والمعرفة والمهارة البشرية، قبل رأس المال والمواد الأولية والموارد الطبيعية، كانت المسؤولية أثقل على كاهل التربية والتربويين، مادام موضوع اهتمامها هو الإنسان بصفة مباشرة، وأي إنسان؟ إنه الطفل في مختلف مراحله.
لقد تم اعتماد الكفايات مقاربة جديدة في الحقل التربوي ببلادنا، فلماذا كان ذلك؟ وهل من دواعي لهذا التغيير؟ وهل من دوافع موضوعية له؟
1- لماذا مراجعة المناهج التربوية؟
على الصعيد الداخلي:
لقد عرف قطاع التربية والتعليم تدهورا على مستوى نتائج التلاميذ وتحصيلهم، ومن ثم على مستوى الكفايات المتخرجة من مختلف المؤسسات التعليمية، مما ينعكس سلبا على سيرورة المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية..، هذا الانعكاس الذي يحول دون انطلاق قطار التنمية.
إذن، نظرا لعجز نظامنا التربوي عن مواكبة المحيطين الاجتماعي والاقتصادي، وعجزه بالأحرى عن تطويره، من خلال إمداده بالكفايات الملائمة والضرورية في جميع التخصصات، وفي سائر مناحي الحياة، كان التفكير في مراجعة المناهج.
على الصعيد الخارجي:
بالنظر إلى ما عرفه العالم من تطورات متسارعة على مختلف الأصعدة المعرفية والتكنولوجية، خصوصا في المجال التربوي، في كل من فرنسا وألمانيا وكندا واليابان، كان الاستنجاد بمراجعة المناهج التربوية، أملا في مواكبة متطلبات الداخل وتطورات الخارج.
2- لماذا اعتماد الكفايات مدخلا تربويا في مجال التدريس؟
لما كان البحث عن الفعالية، باعتبارها سلوكا في العمل، وعن الجودة بوصفها مؤشرا على نوعية المنتوج، وعلى الرفع من المردودية، ولما كانت الرغبةُ شديدةً في عقلنة الموارد البشرية، قصد استثمارها بشكل جيد، تمَّ اعتماد الكفايات في مجال الشغل، ومنه انتقلت إلى مجال التدريس.
لماذا هذا الانتقال؟
لما تغيرت النظرة من اعتبار التربية والتكوين مجالا استهلاكيا إلى اعتباره مجالا استثماريا، ولما أصبح مجال التربية والتكوين قاطرة أساسية للتنمية المجتمعية الشاملة، ونظرا لما عرفه نظامنا التعليمي -كما سلف الذكر- من تدهور جعله لا يواكب مستجدات المحيطين الاجتماعي والاقتصادي، ونظرا لما عرفته مقاربة الكفايات من انتشار ونجاح في العالم الغربي، كان الانتقال إلى اعتماد هذه المقاربة في مجال التدريس ببلادنا.
3- نشأة مفهوم الكفاية
يقول الدكتور لحسن مادي في كتابه:[تكوين المدرسين.نحو بدائل لتطويرالكفايات، ص:32]: “إن مفهوم الكفاية، وإن كان قد استعمل في مجال العلوم اللغوية من لدن الباحث نعام تشومسكي، فيما كان يسميه بالكفاية اللغوية، فقد استعمل بشكل كبير في الخطاب المقاولاتي، ووجد توظيفه الإجرائي في مجال الشغل داخل المصنع والمعمل، وهذا ما جعل جل الكتابات[..] والتي تهتم بالكفاية، يطغى عليها كل ما له علاقة بالمقاولة”
4- ما معنى الكفاية؟
الكفاية لغة: من كفى يكفي: إذا قام بالأمر، فهو كاف. “أليس الله بكاف عبده” وكفى الشيء: حصل به الاستغناء عن سواه، نحو: “وكفى بالله شهيدا” أي شهادة الله تعالى تغني عن سواها، والكفاية: ما فيه سد الخلة وبلوغ المراد في الأمر.
أما اللفظ الشائع على الألسن ألا وهو الكفاءة، فهو غير الكفاية، ولو أنه يستعمل بمعناها خطأ وجهلا بمعنى كل منهما، لأن الكفاءة من كفأ يكفأ كَفْأ وكَفاء وكَفاءة، والكفاءة:حالة يكون بها الشيء مساويا لشيء آخر، والكَفء والكِفء والكُفء والكُفُؤ والكَفيء: المثيل والنظير، جمعه أَكْفاء وكِفاء، “ولم يكن له كفؤا احد”.
إذن، فخلاصة القول هي أن: الكفاية من:كفى يكفي كفاية، فهو كاف، وهم كفاة.
والكفاءة من: كفأ يكفأ كَفْأ وكَفاء وكَفاءة، فهو كَفْء وكِفْء وكُفْء وكُفُوء وكفيء، وهم أَكْفاء وكِفاء.
لذا يجب استعمال الكفاية لا الكفاءة، والكافي لا الكفء، والكفاة لا الأكفاء.
أما الكفاية اصطلاحا: فهي عند نعام تشو مسكي، ويعني بها الكفاية اللغوية: “المعرفة الضمنية التي لدى المتكلمين عن لغتهم، والتي تسمح لهم بإنتاج وفهم عدد غير محدد من الجمل التي لم يسمعوها قط”.
إن الكفاية اللغوية: “نسق ثابت من المبادئ التوليدية” التي تمكن كل فرد من إنتاج عدد لانهائي من الجمل ذات المعنى، بلغته الأصلية.
إنها تعني المعرفة الضمنية بقواعد اللغة، فهي تتيح للإنسان إنتاج الجمل في لغته، وفهمها، أي أن كل إنسان قادر على اكتساب اللغة الإنسانية عن طريق القدرة الآلية المخزونة في التفكير.
إنها المعرفة الضمنية بقواعد اللغة التي تتيح للفرد إنتاج عدد غير محدود من الجمل.
أما الكفاية في الشأن التربوي:
فهي نسق من المعارف والمهارات والقدرات المدمجة، التي يعبئها الشخص[المتعلم]، للقيام بإنجاز ملائم، أمام وضعيات مشكلات أكثر تنوعا وأشد تعقيدا.
إن الكفاية تمكن الإنسان الذي يمتلكها من أن يحسن التصرف، ويتصرف بفعالية في سياق معين، وذلك بأن يتذكر أهم الأفعال التي ينبغي القيام بها في وضعية خاصة، لأنه سبق له أن أنجزها بانتظام في وضعيات: مماثلة أو مختلفة، متوقعة أو غير منتظرة.
– إن الكفاية تعبير عن قدرة الفرد على إنجاز مهمة بشكل مُرض.
– إنها القدرة على التكيف.
– إن الكفاية الواحدة تتضمن، وبشكل تفاعلي، عددا من القدرات المعرفية والوجدانية والحسية الحركية.
5- كيف يمكن بلورة الكفايات على مستوى التخطيط ووضع البرامج؟
يمكن ذلك بواسطة:
– ضبط الحقل المعرفي للمواد الدراسية.
– ضبط المرجعية التدريسية [الديداكتيكية] لكل مادة على حدة.
– توسيع دائرة الاستشارة مع المعنيين التربويين من مدرسين ومؤطرين وباحثين.
– تعزيز المكتسبات السابقة، وتجاوز السلبيات المدونة في تقارير مجالس الأساتذة، وتقارير المؤطرين التربويين.
– إقامة روابط فعلية بين البرامج الدراسية وواقع الحياة اليومية للمتعلمين.
6- كيف يمكن أجرأة الكفايات داخل حجرة الدرس؟
يمكن ذلك بواسطة:
– جعل المتعلم يفهم ماذا عليه أن يفعل في طور المهارات.
– تمكينه من التحكم في الشروط الضرورية لاستعمال ما فهمه في طور القدرات.
– مساعدته على الانتقال من هذا التحكم الجزئي، إلى آخر أكثر شمولية بفعل التكرار والاستمرارية.
– اعتماد الوساطة التربوية، وذلك بمساءلة المتعلمين، للانطلاق من مكتسباتهم، قصد الوعي بتعلماتهم، من أجل تنمية كفاياتهم.
7- ما الهدف من التدريس بالكفايات؟
إن الهدف من التدريس بالكفايات هو البحث عن الجودة والفعالية، وعقلنة الموارد البشرية، رغبة في استثمارها، وتحقيق التكيف السليم للفرد مع محيطه، وتكوين شخصية مستقلة ومتوازنة ومتفتحة، تقوم على معرفة دينها وتاريخ وطنها وتطورات مجتمعها، قصد تزويد المجتمع بمواطنين مؤهلين للبناء المتواصل للوطن على جميع المستويات، وذلك من خلال إكساب المتعلمين الكفايات الملائمة.
إلى هنا ، وعلى المستوى النظري، تبدو الأمور على ما يرام، ويبدو تطبيق مقاربة الكفايات لا غبار عليها، إلا أنه من حقنا أن نتساءل: هل من عوائق وتحديات تعترض هذا التطبيق؟
8- عوائق تطبيق مقاربة الكفايات في المدرسة المغربية:
– عدم خضوع المدرسين لتكوين مستمر وفاعل على الرغم من أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين ينص على تكوين مستمر يستغرق 30 ساعة موزعة على طول السنة الدراسية، كما ينص على إعادة التأهيل المعمق كل ثلاث سنوات، إضافة إلى دورات التكوين المستمر على أساس المستجدات التربوية.
– العمل وفق نظام الامتحانات، ووفق الخريطة المدرسية.
– ظاهرة الأقسام المشتركة في البوادي.
– الاكتظاظ المريع في المدن.
– غياب البنية التحتية الملائمة، والوسائل اللازمة.
– الاستعمال التقليدي للزمن، وعدم احترام إيقاع تعلم كل تلميذ.
إن اعتماد التدريس بالكفايات في المغرب لم ينطلق من حيث يجب أن ينطلق، أي أنه لم ينطلق من بحوث ميدانية من عين المكان، في المدارس بالمدن والقرى والوهدان والوديان والجبال والصحاري، للتعرف على المشاكل والتمييز بين الخصوصيات، والوقوف على الصعوبات، ورصد الثغرات، والاطلاع على الحاجيات، وتقويم التكلفة، لضبط المتطلبات المالية والمادية، قصد وضع خطة للبحث عن الموارد المالية أولا، لأن أي مشروع لابد له من دراسة للتشخيص وخطة للتسيير والتنظيم وموارد للتنفيذ، ثم تقويم كل مرحلة لملء ثغراتها وتجاوز نقائصها، إلا أن شيئا من هذا لم يكن، بل تمت صياغة منهج التدريس بالكفايات، بالاستنجاد بالغرب ككل مرة، كما أننا لا نتوفر على رأسمال بشري، أوأن مواردنا البشرية لا عقول لها.
لقد تم اللجوء إلى بضعة دول غربية لاستعارة هذا المنهج منها، ومن ثم إسقاطه على واقعنا المرير دفعة واحدة حتى يكون الفشل ذريعا، والضربة قاضية، كما هو حاصل الآن، ونحن على مشارف السنة السابعة من العشرية الوطنية للتربية والتكوين، دون أخذ بعين الاعتبار خصوصيات واقعنا من حيث الثقافة، أو مستوى التطور، أو “محدودية” الموارد.
ومسك الختام:
هل تم استنفاذ نظرية الأهداف لأهدافها، حتى تم استيراد نظرية الكفايات؟
هل تشكل نظرية التدريس بالكفايات تجاوزا لنظرية التدريس بالأهداف وقطيعة معها وإلغاء لها، أم أنها تشكل مرحلة متطورة منها؟
ألا يوجد في طيات نظرية الكفايات نظرية الأهداف؟
هل ستلقى مقاربة الكفايات نفس مصير سابقتها المستوردة؟