لست غافلاً عن مضايقِ النظر في السياسة الشرعية المعاصرة، والتقاطعات المتناحرة مع السياسة الديمقراطية، بل والتحدي الكبير أمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضوابطه شرعاً، وبإكراهاته واقعاً بين مجتمعاتٍ انخفض فيها الوازع الديني عملاً، -وإن كان قويا تعاطفاً، وخاصة عند الجدب وركوب أمواجِ المحن؛ ترى ذلك جليا في مستشفيات مجتمعاتنا المسلمة وفي مقابرها، وعند عزاءاتها المنكسرة لجلال الله إيماناً بقضائه وقدره خيره وشره حلوه ومره من الله تعالى-.
وكما انخفضت الرغبة في تشخيص واقعيةِ الشريعةِ وجعْلِهَا دَأَباً في حياة الناس عقيدة وسلوكاً، لأسباب أكبرتِ الوضعَ عبر السنين، فكذلك انخفضت المعرفة الأصيلة بماهية الشريعة ولو في أدنى تصوراتها البعيدة عن تحريف العلمانيين وعن تشكيلها في خلافات المذاهب.
وبعيداً عن تراقيع مُهَجَّنَةً تهاب هجمة الناسِ وتغفل عن “نعم المولى ونعم النصير” وعن “فإن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين” وعن “فإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المومنين والملائكة بعد ذلك ظهير”..
هذا التدني العام في تصور الشريعة وطرق تكييفها في حياة الناس لا يشك عاقل في أنه ملقٍ بظلاله، -ظلالٌ محرقةٌ ذات شعبٍ ذات لهبٍ فكريٍّ لا ظليلٍ ولا مخايله بوارفةٍ،- على كثيرٍ من الأنفس والعوالم، ولا يجوز التغافل عنه وعن أزواجه من مفاتيح الأزمات التي قد تساعد في تفسير كثير من المعضلات؛ تقريباً بين الأفهام وتحقيقاً لرحمانية الله “التي وسعت كل شيء” في أن جعل “لكلّ قومٍ هادٍ”..
وغيرَ بعيدٍ عن شجرة الفقه في شاطئ المصالح الأيمن، من واد الاجتهاد غير المقدس في بقعة الشريعة المباركة الشاسعة..
أَيْ يا عبادَ الله اخلعوا نعال التجاذب وأمسكوا بعصا الطاعةِ لله وحده، تهشون بها الشبهات وزاهقَ الباطلِ؛ دون أن تكون لكم فيها مآرب أخرى، ظهرت لغيركم أو تختانون بها أنفسكم، إلى درجة أن تُسَكَّرَ الأبصار فتجادلون عن الذين يختانون أنفسهم أكثر منكم “هأنتم جدلتم عنهم في الحيوة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أَمَّن يكون عليهم وكيلاً”.
أو إلى درجة توقعون الضرائر بأنفسكم وتستسلمون للمُضِرّينَ بكم، ثم تقولون: “فقه الضرورات” وأَيُّ ضرورةٍ هذه وهي في حيز إمكانِ الرفعِ أو الدفعِ، وأي ضرورة هذه التي لم تنل شرف الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى “لعلكم تفلحون”؟!
وأي ضرورة هذه “ولما يعلم الله الذين صدقوا”؟
وأي ضرورة هذه وأنت مازلت في أول بوادر الألم في ذات الإله لتكون من الراجين: “إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله غفوراً رحيماً”
وأَيُّ ضرورة تلك وأرضُ البدائل واسعة ومساحة المدافعة شاسعة “ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها” -وقد كان فيهم مستضعفون تنتابهم الضرورات- أليست المدافعة أذىً هَوَّنَهُ الرحيمُ الودود بقوله: “لن يضروكم إلا أذى وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور”، وجعل في لأوائه حفظ الصوامع والبِيَعِ والصلواتِ من الانهدام..
فليس كل أذى ضرورة، وليس كل مدافعة فتنة، وليس كل حالٍ مكروهةٍ يتخيل في مآلها المُكْفَهِرُّ الأسوأُ “عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا”، بل قد يفرضُ الشاقُّ شرعاً “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم” فتجاوز به حد الخيرية له في نفسه إلى الخيرية لأنفسنا ونحن لا نشعر..
والأنفسُ هنا أبعد وأبلغ من أن تقصر على من يعايش الحدث وإنما نفس الأمة ذات الجسد الواحد “فإذا دخلتم بيوتاً غير مسكونةٍ فسلموا على أنفسكم”؛ فقد نتحمل الأذى الضنكَ في جيلٍ لترتاح أجيال؛ فتكون عين التهلكة جزءًا نجاةً كُلاَّ،، وعينُ المفسدةِ سَنَةً مصلحَةَ الدهر والحِقَب: “قال أَخَرَّقْتَهَا لِيَغْرِقَ أَهْلَهَا”؟
“فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا”
وشواهد ذلك في حياة الصابرين بعدد رمل عالج وأضْوَأ من مصابيح السماءِ وأزين.
أي يا عبادَ الله: الحاكم في أصل الشرع:
ولي بايع له أهل الحل والعقد فتابعتهم الأمة، على تفاصيل معروفة في الأوصاف والشورى وصيغة البيعة.. الخ..
المهم أن الرضى شرط، ولا يؤمُّ قوما وهم له كارهون، (ولا أريد التطويلَ بنقولٍ فهي باديةُ المظان)..
ولما كانت النزاعات واردة في أقل العقود شأناً في الدراهم والأواقي؛ كان النزاع في عقد الإمامة بأنواعها، وسياسة الناس أكثر احتمالاً؛ لشساعة الرداء ولصعوبة التعميم بالإرضاء، فجاءت الشريعة بفقه “الغلبة” إمعانا في الرحمانية والرحيمية بالناس كافة، ولكن بين المرتبتين -أعنى “الرضى والغلبة”-؛ نصت الشريعة بقطع المتواترات على تحريم الخروج، والنهي عن الأخذ بالظنة أو التحامل لفئوية المصالح، أو التعلل بتقصيره في نفسه، وجعلت لأقاصي ذلك حد البواح؛ قطعاً للطريق عن العبث في العصب، فجعلت الباب أعقد من الربا في الاقتصاد لا يقبل في عُمَدِ المال “إلا هاءَ وهاء يدا بيد”..
بل استحلت دمَ المنازع مع أنه لا يخلو من متابع كائنا من كان؛ طلبا للقرار والوقار، وحتى لا يصابَ الناس في طُعمَةِ الجوع ولا في مأمنِ الخوف، ورحمة بالجماعة من عذاب الافتراق، والإعجاب بالرأي والقبيل..
ولم تأذن في جعل كل ظالم خارج غالباً إلا بعد مغالبة، لأن الظالم طاغ ولو تصوّر وجودهم في ملكوت الإلهية!!”لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه”؛ فلا يحجز الظالم إلا الأخذ على يده، أو أن يسلم له الاستضعاف.
أما والدلاء سجال، تَنالُ وتُنالُ، فليس إلا مقارعة المدافعة استنصارا للسلام بالحق؛ إذا أيها الناظر: “الحاكم المتغلب” في الشريعة ضرورة لا يجوز إيقاعها بالنفس عند إمكان دفعها دون تهويل أو تهوين؛ “فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم” “غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه واتقوا الله”.
ولا يجوز التجاوز إذعاناً إلى مسغبة الكرهِ دون المدافعة عن أصل مَقْرُبَةِ الرضى، ولا يصح الهرع إلى المستثنيات ولما يستفرغ الوسع في الحفاظ على الأصول، ولا مجال هنا لادعاء الاستبصار في رؤية المآلات قبل إدبار الفتن؛ فإن سلمت كنت حكيم الأمة، وإن ابتليت قلت: ألم أقل لكم! وإن ظفر الحق قلت ألم أكن معكم!!
أما نحن فنعتقد الجزم لمصير من إليه تصير الأمور، ونقول ما قال الرجل الصالح: “فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله”، وما أمره إلا دعوته ولا موعده إلا الآخرة، وما عدا ذلك ما قال إمامنا مالك: “إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين”..
وإنها -والله شهيد- لمدلهماتٌ، ولكن الحديثَ عن كلمة حق تَكْلؤ الكوزَ أن لا يصيرَ “مجَخِّياً لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا” خير من توريع بارد أو اعتزال شارد أو وسط بائد..
ليس ضروريا أن نكون بين خيارين نزاريين “إني خيرتُكِ فاختاري”، أن نستسلم أو الدماء!
الواقع الدنيوي بالمجاهدة سيفرض اختيارات أخرى تبقي على المصالح وتهدي بإذن الله وسنجد أن في الحياة الدنيا على الأعراف رجال لن يروا معك النعيم بادي الرأي ولكن قد لا يستمرؤون تلقاء أصحاب الهاوية؛ وهذا القدر كافٍ في سياسةِ الدولةِ تحقيقا للعدل، ثم تحسن الدعوةُ طريق البر للأنام..
لماذا لا نجعل الظلمة يفكرون في العدل؟!
لماذا لا نغالب المفسدين حتى يعزموا على الإصلاح؟!
إنَّ عَجَلتنا في تقدير المصالح والمفاسد؛ كثيراً ما تجعلنا في حَيِّزِ من يخافون “عيلةً” وقد فَنَّدهم الله بقوله: “فسوف يغنيهم الله من فضله”، ودونك أمثالَ أرضِ الكنانة -وقد صارت من أيام الله التي يُذَكَّرُ بها، حتى رأينا فيها انبعاثَ من يَهْبِطُها شهوةً في “بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها” يستبدلون الذي هو أدني بالذي هو خير-؛ أن تجد في حادثة انقلاب مصر “30يونيو” من يسوي بين “خَلْعِ مبارك” و”الثورة القدرية” عليهِ أَخْذَ عزيزٍ مقتدر، وبين “الخروج على مرسي” و”فئة اللاغين عليه ولم يُسَمِّ بعدُ “لعلهم يغلبون”!
كالذي يسوي بين مدتيهما: “تجريب سنة بصورة حكم”، وبين “خلود ثلاثين سنة فرعونية دكتاتورية”!
ناهيك عن الصوت النشاز بتفضيل حسني!!
يُخَلِّدونَ قولةَ جوزيف جوبلز (وزير الدعاية النازي) ورفيق هتلر: “اكذب اكذب حتى يصدقك الناس” فيصير الكذب حقيقة فلا يخترق!
أي ميزان هذا؟؟
وأي كذب على الشريعة؟
وكيف سيلقى الله مثل: “خالد الجندي الأزهري” مواطئا “لعمرو أديب المذيع” في ليلة القدر!!! تغلي قدور حناجرهم بالسوء.
وكمُلَ المشهد حين اتصل “رئيس الانقلابيين الصوري المؤقت” بأهله وعشيرته!!! فكان حسب المذيع المِهْيافِ والأزهري المتلاف أنه من بركات استجابةِ دعائهم في ليلة القدر!!!!
ثم بعدها شاء الله بُكْرَةً أن شهد شاهد من أهل أمريكا -ولي أن الانقلاب انقلاب كما أن البطة بطة، فَنَكَّتَ وبَكَّتَ حتى خرج المسلماني صاحب الجمهورية الثانية عن عقله المصطنع في طبعته الأولى!!!!!
كيف إذا ستقدرون المتغلب في زماننا يا ألسنَ العدل وأنتم لم تحددوا أين الغلبة وعند من القوة والمقاليد ومن الغالبُ والمتغالبُ والمُغَلِّبُ؟!
وإذا كان الأمر محيرا فالوقوف مع الأصل أصل، وأن الحقائق عندنا عقائد لا تزلزل وإن خفيت مآلات حكمها، فنحن عبيدُ “والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”، موقنون بـ: “له مقاليد السموات والأرض” مؤمنون بقوله: “فوجد الله عنده فوفاه حسابه”.
أَيْ يا عباد الله؛ إن شريعة الكبير المتعال بناءٌ واحدٌ؛ أذن الله لإبراهيم الخليل وولده إسماعيل برفع قواعد بيته المُحَرَّم ولم يأت ذكر السقف في البيان الكريم؛ تلميحا -والله أعلم بمراده- إلى سموقِ هذا البيت وسُمُو شريعته، وبساقة نخيل الفهم فيه؛ بحيث يمكن البناء على قواعده إلى يوم تبلى السرائر، ما دام المُوَلِّي وجهه شطره ليضع لبنةً أو ما قاربها؛ ويضع ما صنع على عين الرحمن: “ولتصنع على عيني” ولنفسه سبحانه: “واصطنعتك لنفسي”، ويُقرِّبُهَا لِتَقَرَّ في يده تعالى وكلتا يدي ربكم يمين..
ولا هَمَّ له حينئذٍ إلا أن يُشَدَّ أزره للصدع بما يؤمر “كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيراً”..