عيون على القسطنطينية من سانت صوفيا..إلى جامع قرطبة طارق الحمودي

منذ أن استطاع السلطان العثماني محمد الثاني فتح مدينة القسطنطينية التي بناها قسطنطين الحادي عشر، تزامنا مع سقوط الممالك الإسلامية الأندلسية، ودخولها على حصان أبيض، لم يطب للنصارى نوم، ولم يهنأ لهم بال وهم يمنون أنفسهم باسترجاعها، وتخليص كاتدرائية «كنيسة سانت» صوفيا التي كان يعتبرها اليونانيون «عرش مجد الرب وبيت الملائكة» من صومعاتها المرتفعة في سماء المدينة شاهدة على النكبة، وكان للفتح العثماني ..هناك في الشرق، تأثير كبير على أحوال المسلمين في الأندلس في أقصى الغرب، ولذلك لا يمكن الفصل بين التاريخين، ولا بين الخافقين.
وقد بلغ باليونانيين -خاصة- حلمهم إلى أن اعقتدوا أن كاهن الكنيسة تخفى في شكل عمود مرمري عندما قوطع قداسه بدخول الفاتحين العثمانيين، على أمل العودة بعد استرجاع الكنيسة لاستكمال القداس!
كانت القسطنطينية شجا في حلوق الأوروبيين النصارى، غربيهم وشرقيهم، ورمز سقوط الإمبراطورية البيزنطية الرومانية عند اليونانيين والأرمن الذي انحشروا في المجتمع العثماني اقتصاديا وسياسيا باعتبارهم رعايا السلطنة، وكانوا أكثر الآملين الحالمين، وتوارثوا الأمل صغيرا عن كبير، والذين لم ييأسوا من مناشداتهم المستمرة للغرب وحثهم على استرجاع المدينة، إلى أن استطاع الغرب بدء بفرنسا التي تمكنت من إفساد الحياة السياسية والثقافية فيها، إلى أن بلغ السقوط العثماني ذروته في معمعة الحرب العالمية الأولى التي تورطت فيها السلطنة بسبب مجموعة «تركيا الفتاة».
كانت عيون الغرب دائما على القسطنطينية، وقلوبهم متعلقة بماضي الإمبراطورية البيزنطية التي أسقط الهلالُ العثماني صليبَها، وكانت عيون أخرى تنظر إليها من داخلها في تستر، عيون يهودية هاجرت إليها من أوروبا بدعوة سلطانية بعد الفتح، وكان لها الحسم أخيرا في مآلها لاحقا.
ستتظافر جهود دول الحلفاء، فرنسا وبريطانيا واليونان على الإجهاز النهائي على القسطنطينية، ويبلغ حينها الحلم اليوناني قريبا من تحققه، ويستبشر اليونانيون بأن ملكهم حينها قسطنطين سيسترجع ما بناه قسطنطين وضيعه قسطنطين، ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية بعيدة عن كل ذلك، فقد طالبت هي أيضا بآيا صوفيا، ولست أدري ما كان يجول في بال البابا بنديكت السادس عشر وهو يزور الجامع سنة 2006، ثم سلمت المدينة للحلفاء، ودخلها المارشال الفرنسي فرانشيت ديسبيري قاصدا السفارة على فرس أبيض.. قدمه له أحد اليونانيين.! واصطف على جانبي الشارع اليونانيون ..والأرمن مهللين فرحين..! وانتقل الثقل السياسي للأتراك بعيدا عن استطنبول (القسطنطينية)، هناك في أنقرة حيث مصطفى كمال ومن معه.
لا تزال اسطنبول حاضرة اجتماعيا وسياسيا،وهي قطب رحى الانتخابات التركية، ولا تزال عيون الغرب على تركيا في حكم حزب العدالة والتنمية الذي لم يفتأ زعيمهم بتذكير الناس بماضي العثمانيين، وأنهم أحفاد الإمبراطورية، وأزعم أن الرسالة تصل، وأن المرسل إليهم واعون بها، ولا يمكن فصلها عن الأحداث في الشرقين الأدنى والأوسط كما يقال.
يخشى الغرب من قسطنطينية جديدة، قسطنطينية تقوم على استحضار التاريخ، يقيمها أحفاد بني عثمان في حلة جديدة، بعد أن استوعبوا الدرس، ولأجل ذلك لا تزال عيون الغرب على القسطنطينية، على ما تفرزه صناديق الاقتراع فيها، لأنها المدينة الحاسمة، ولا تزال عمليات الاسترداد في إسبانيا قائمة آثمة، لكنها فاشلة، فإنه يصعب جدا اقتلاع آثار حضارة قوية انغرست في تراب الأندلس، ولن يكفي إقامة قداس داخل جامع قرطبة لإسقاط تاريخه… وحتى لو أسقط الجامع، فلن يستطيعوا إتلاف آلاف الصفحات التي كتبها مسلمون وغربيون عن تاريخ الحضارة الأندلسية، بل ولن يستطيعوا محو الآثار الأندلسية الإسلامية من الثقافة الإسبانية.. إلا ما شاء الله!
ليس للغرب وفاء ولا ذمة، ولا يرقبونها حينما تنال أيديهم أعراض المسلمين وأموالهم، ولا حينما تتاح لهم فرصة إفساد الأخلاق والأذواق، ويتذكر الناس جيدا الروسيات الفاتنات في شوارع القسطنطينية، ويتذكرون ما كان يكتبه الجنود على جوانب السفن: «إلى القسطنطينية والحريم»، وكان الحريم الجناح المخصص لنساء آل البيت العثماني.
ولست أنسى روسيا، والتي لم تزل منذ القديم تناوش السلطنة، وتحاربها، وعيونها على القسطنطينية، روسيا التي لم تنس «مهمتها التاريخية على شواطئ البسفور».
كل هؤلاء اليوم حاضرون، ما عدا اليونان المريضة، ولا عبرة بالأسماء، فكلهم نصارى، وكلهم مصلحيون، ومن أراد معرفة ما يجري اليوم على ضفاف تركيا، فليستحضر تاريخ المنطقة، عله يجد بعض الأجوبة على الأسئلة الكثيرة التي تتوالد اليوم توالد النار في الهشيم. ولا تزال العيون على تركيا إلى ما شاء الله، وأرجو أن أكون أسهمت بهذا المقال في إثارة الأسئلة المناسبة عوض تقديم الأجوبة، والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *