هذا المقال هو رد على من ادعى أن قواعد النظام العام تتغير بتغير الزمان والمكان في المقال الذي نشر في الجريدة الإلكترونية هسبريس بتاريخ: الأربعاء 11 يوليوز 2012، تحت عنوان: «لا… يا… وزير العدل… النظام العام تغير بفعل الدستور الجديد»!(1).
استهل صاحب هذا المقال كلامه بما يلي:
“في الوقت الذي ينادي فيه دعاة الحريات الفردية إلى الإقرار بتوسيعها والاعتراف بأحقيتهم في ممارستها وتعزيز حمايتها بما فيه الحرية الجنسية ولو خارج إطارها الشرعي الزواج، بشرط وجود الرضا والقبول المتبادل بين طرفيها الرجل والمرأة، ومناداتهم بالتبعية بإلغاء كل القيود القانونية، التي تنال وتقنن الحق الطبيعي بما فيه المادة 490 من القانون الجنائي المغربي، وتقديم كل من عارضهم جهرا في حق التعبير عن الحق قربانا للقضاء، اعتمادا على مرجعية حقوق الإنسان الكونية. فإن فريقا آخر من ممارسي السياسة باسم الدين يعارضونهم في الحق وفي التعبير عنه، وقد يصدرون فتاوى توصفهم بالديوث وتبيح هدر دمهم بذريعة حماية الإسلام، لأن من خالف تعاليمه جزاؤه الحد والتعزير شرعا ومتابعته وعقابه بجريمة زعزعة عقيدة مسلم في القانون الوضعي..
بدءا لا بد من الإشارة أن النظام العام بطبيعته فكرة سياسية واجتماعية، لأن قواعده مستوحاة من حياة الأفراد الجماعية، التي تتغير في الزمان والمكان، فما هو من النظام العام في المغرب الآن تجريم العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج ليس هو كذلك في اسبانيا..”(1).
فأقول وبالله التوفيق:
النظام العام في التعريف القانوني المعاصر:
يكاد يجمع شراح القانون الوضعي على أن فكرة النظام العام هي مرنة غير محددة، بمعنى أنها فكرة نسبية تتغير وفقا للمكان والزمان فهي تختلف من مجتمع إلى آخر، بل داخل المجتمع الواحد تختلف من زمان لآخر.
لذلك وجدوا صعوبة في تعريفه تعريفا دقيقا، فاكتفوا بتقريب معناه إلى الأذهان بقولهم:
إن النظام العام هو الأساس السياسي والاجتماعي والاقتصادي والخلقي الذي يسود المجتمع في وقت من الأوقات، بحيث لا يتصور بقاء مجتمع سليم من دون استقرار هذا الأساس، وبحيث ينهار المجتمع بمخالفة المقومات التي تدخل ضمن هذا الأساس.
وقرروا تبعا لذلك أن القواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام آمرة لا تجوز مخالفتها، لأنها تمس كيان الدولة السياسي والاجتماعي والاقتصادي والخلقي.(2)
الآداب العامة جزء من النظام العام:
ورأوا أن التعبير الخلقي عن فكرة النظام العام هي الآداب العامة، التي هي مجموعة من القواعد الخلقية الأساسية والضرورية لقيام وبقاء المجتمع سليما من الانحلال، أو هي كذلك قدر من المبادئ التي تنبع من التقاليد والمعتقدات الدينية والأخلاق، والتي يتكون منها الحد الأدنى للقيم والأخلاقيات التي يعد الخروج عليها انحرافا وتحللا يدينه المجتمع.
لذلك قرروا أيضا أن الآداب العامة لما كانت كذلك، فإن القواعد القانونية التي تتصل بها آمرة يمتنع على الأفراد مخالفتها، لأن في مخالفتها انهيار للكيان الأخلاقي للمجتمع. والآداب العامة بهذا المفهوم تكون جزء من النظام العام.
وانتهوا إلى أن الآداب العامة هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقا لقانون يسود علاقاتهم الاجتماعية.(2)
النظام العام في المجتمع الإسلامي:
وإذا كان هذا مقررا عند فقهاء وشراح القانون الوضعي على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم، خاصة في المجتمعات الحديثة التي انفصمت عن أي عقيدة روحية، يمكن أن تشكل مرجعا ترتكز عليه قيمها وأخلاقها، فإن مقتضيات النظام العام والآداب العامة أوكد وأعرق في المجتمعات التي تنبثق قوانينها العامة من عقيدة راسخة في نفوس أفرادها، تلك العقيدة التي تضمن امتثال الناس لتلك القواعد وتوثق الصلة بين مختلف القواعد العامة وحيثياتها بما يجعلها وسيلة لتحقيق مقاصد سامية تؤطر لنظام عام متين وسليم، أساسه عقيدة روحية تضمن حفظه ورعايته، وغايته تحقيق المصلحة العامة للمجتمع.
وقد تشكل لدى هذه المجتمعات تراث قانوني وفقهي عريق نسجت خيوطه تلك العقيدة التي ربطت بين أفرادها برباط الأخوة والمساواة والتكافل، حتى أصبحوا بمثابة الجسد الواحد الذي يخضع لنظام واحد ينضبط بتلك القوانين والاجتهادات الفقهية والأعراف التي تغذيه وتقيم صلبه.
وكان هذا شأن المجتمع المغربي على غرار كثير من المجتمعات الإسلامية العريقة، فمنذ اختيار المغاربة الإسلام دينا ومنهجا لحياتهم كان النظام العام الذي ساد في المغرب عبر قرون مضت مستمدا من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وكانت غايته تحقيق مصلحة الأفراد والجماعات، في توازن وانسجام، دون تغليب هذه المصلحة على تلك.
وقد أسس هذا النظام لأول مرة في التاريخ الإنساني لقيام نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، كل ذلك في إطار شرعي مستمد من الوحي الذي ربط مختلف قواعد هذا النظام بالعقيدة، التي تلزم الأفراد والجماعات بمنظومة من القيم الأخلاقية الثابتة، التي تضمن رعاية وصيانة النظام العام في المجتمع، والتي لا تتغير بتغير البيئات والأزمان.
قواعد النظام العام في الفقه الإسلامي:
فالقواعد التي تنظم النظام العام في المجتمع المسلم منها ما هو ثابت لا يقبل التغيير والتبديل، مهما امتدت العصور وتغيرت البيئات، ومنها ما هو متغير يقبل الاجتهاد والتأويل، وذلك تبعا للثابت والمتغير في حياة الإنسان.
فالثابت منه، كالعقيدة والعبادات والآداب وأصول الحلال والحرام في المعاملات وأصول أحكام الأحوال الشخصية، قد أورد فيها الشرع الحكيم أحكاما تفصيلية قطعية لا مجال فيها للاجتهاد، كل ذلك محاط بسياج من القواعد الأخلاقية الثابتة والتي لا تغيير بتغير الأزمان والبيئات.
بينما أرشد الشارع إلى الاجتهاد لاستنباط أحكام مناسبة، تحقق مصالح الناس حسب البيئات والأزمان، في المتغير من فروع المعاملات وإجراءات تطبيقها.
الثابت في الجانب السياسي:
إمارة المؤمنين القائمة على البيعة الشرعية والشورى، لجمع الشمل ورأب الصدع ودفع الفتنة وإقامة الفرائض والحدود، وصيانة الدماء والأعراض وحفظ الأموال واستتباب الأمن، وفروع كل ذلك…
الثابت في الجانب الاقتصادي:
– الالتزام بالقيم الإيمانية والأخلاقية، كالأمانة والصدق، والسماحة والعفة والتورع عن الشبهات وغير ذلك من القيم، عند ممارسة النشاط الاقتصادي.
– مجال المعاملات الاقتصادية هو الطيبات والكسب الحلال، من غير المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة كالخمر والخنزير والميسر، وكل ما يؤدي إليها من كل ما يشتبه من الوسائل والطرق التي توقع في المحرمات، وتكون ذريعة إليها.
– تقديس الملكية الفردية، المقيدة بعدم الاعتداء على حقوق الآخرين وأدائها لحقوق المجتمع، وبناء التعامل على الرضى، وتحريم الربا بكافة صوره والقمار والاحتكار والغش والغرر والرشوة، وكل معاملة تؤدي إلى أكل مال الغير ظلما وعدوانا واستحلاله بدون وجه حق، كأن يكون أخذه عن طريق الحرابة والغيلة (ما أخذ بعد قتل صاحبه) والغصب والسرقة والاختلاس والخديعة والتعد والجحد.
– إشعار الإنسان بالاستخلاف في المال، وترغيبه في الإنفاق، وجعل المال في خدمة المجتمع، عونا للفئات المعوزة وطاعة لله تعالى.
– استثمار الأموال وفق قواعد الشريعة.
الثابت في الجانب الاجتماعي:
– بناء العلاقات الاجتماعية على أساس الإخاء والمساواة واحترام الكرامة الإنسانية، واحترام حرية الأفراد التي تكفلها الشريعة، وتحريم الطعن في الأعراض كتحريم الدماء والأموال، ونبذ العنصرية والعصبية بجميع أشكالها كالقومية والقبلية، أو التمييز بسبب العرق أو اللغة أو اللون، وجعل التقوى والاستقامة في السلوك والأخلاق معيارا للتفاضل بين الناس، واعتبار التكافل الاجتماعي واجبا وتكليفا شرعيا.
– جعل الأسس السابقة، من إخاء وحرية ومساواة وكرامة ونبذ الفوارق المختلفة، من مرتكزات الحكم والقضاء.
– الحث على كل ما يقوي الصلات بين الناس من إفشاء السلام وبر الوالدين والإحسان إلى الأقارب والجيران وكل الناس، والتحذير من كل ما يسبب العداوة والبغضاء وقطع الصلات، من كراهية وحقد وحسد وغيبة ونميمة وتحسس وتجسس، أو إفشاء أسرار الغير وتتبع عثراتهم وعوراتهم وغيرها.
– تحريم الزنا وعمل قوم لوط والسحاق، وإشاعة مظاهر الفاحشة في المجتمع بمختلف الوسائل.
– تحريم المجاهرة بالمحرمات المعلومة من الدين بالضرورة وانتهاك حدود الله التي أمر برعايتها، كالمجاهرة بالزنا أو بشرب الخمر أو بالقمار وغير ذلك من كل ما نهى عنه الشرع وحذر منه.
– تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة بآداب وأخلاق سامية لصيانة المجتمع من الرذيلة والانحلال. واعتبار الزواج بين رجل وامرأة ميثاقا شرعيا وحيدا لتكوين الأسرة، وفق الشروط والأركان الشرعية المرعية، ووفق الفطرة الإنسانية السليمة.
الآداب العامة في المجتمع الإسلامي من الحدود التي لا يجب انتهاكها:
وإذا قلنا بأن التعبير الخلقي عن فكرة النظام العام هي الآداب العامة التي هي مجموعة من القواعد الخلقية والضرورية لقيام وبقاء المجتمع سليما من الانحلال… نجد أن مراعاة جميع القواعد والثوابت السابقة لا يعني إلا وجوب تمثل الآداب الشرعية العامة في المجتمع الإسلامي، تلك الآداب التي تعتبر من الحدود التي لا يجب على أحد انتهاكها، صيانة لقواعد النظام العام، والتي تدخل في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض كفاية، والتي أوجب الشرع على كل أحد رأى من ينتهك من ذلك شيئا أن يرفعه إلى القاضي والشهادة عنده، صيانة للنظام العام.
وللبحث بقية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المقال: نشر في جريدة هسبريس أنظر الرابط التالي:
http://www.hespress.com/writers/58052.html
((2 هذه الفقرة مقتبسة.