الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض عبد المغيث موحد

أجدني أقف موقف إجلال وتقرب إلى الله وأنا أنظر إلى أمِّنا عائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تسأله في ذعر واستغراب، وهي بين يديه، يصف لها موقف الحشر، وكيف أن الناس سيحشرون حفاة عراة غرلا، فتقول مستفسرة: رجالا ونساء، ينظر بعضنا إلى بعض؟ فيجيبها الرحمة المهداة: يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض. 

فأنّى لأبناء الإسلام البررة، ألا تكون لهم وقفات مع هذا الاستفهام العزيز الأبي! استفهام لم يمنعه وصف هول ذلك الموقف الرهيب، يوم يصدر فيه الناس إلى ربهم أفواجا أفواجا، ليُرَوْا أعمالهم، وليقضي الله بحكمه الحاسم، الذي يليه سوق رفيع، أو سوق شنيع..
إلى أن يكون هذا الاستفهام تركة نفيسة حوتها بطون أمهات كتب السنة، تركة تحكي قضية حضارة، بنى عراها سيد بني آدم ولا فخر، بمِلاط الخلق السامق السني، وحصباء الفضائل الكريمة المتسامية، فجاء هذا البناء قويا متماسكا، غنيا بمقوماته الربانية، التي لم يبلغها جيل سابق، ولن يبلغها جيل لاحق، ولذلك وعليه فإن أي عود لنا في باب إعادة التأسيس، والاستنجاد الطارئ والمطرد، هو عود مبارك، مسوغ له حد القناعة والإقناع، ولا خوف عليه من دعاوي التلبيس المارقة الحاقدة، التي هي من جنس الزبد الذي قرر فيه ربنا مصير الذهاب جفاء، دعاوي تريد وهي تتخبط في لجة الغي، وطوفان الجهالة الهالكة، أن تحول بيننا وبين هذا الماضي المشرق، فنراها تنبزه المرة تلو الأخرى بالوراء الذي سادته الظلامية، والعهد الذي انكوت به غرانيق الحرية المزعومة بنيران الاستبداد وكير الاستعباد.
وهي في نبزها هذا لا تقف عند حدود الملاسنة البيزنطية، بل تتعدى هذا كله في إدعاء الخيرية في كل نقيض لمبادئه وأسسه الفاضلة، فتلتمس العدل من الوافد الصقيعي الغائر المستبد، وتطلب منه باسم الحداثة، عيش حياة الغرب الكرطونية، بعُجَر فكرها الكنسي، الذي كان ولا يزال يختزل المرأة في كونها رمزا للشر والحقارة، ولا يرى لها خلاصا من هذا الذل والمهانة، إلا أن تتنازل عن أنوثتها، وتلج بوابة الرهبنة، وليس الكلام هنا من باب الرجم بالغيب، ولكن اسمع لقديسهم “أمبروز” وهو يقول: “تلك التي لا تؤمن، إنما هي امرأة، ويجب أن تصنف مع جنسها الأنثوي، أما تلك التي تؤمن -أي تترهب-، فهي تتقدم نحو الرجولة الكاملة، وآنذاك تتخلى عن اسم جنسها الأنثوي، وغوايات الشباب، وثرثرة العجائز..”، وبِبُجَر هذه الحياة الكرطونية، التي اختزلت المرأة في أدبيات الرمز التجاري، الذي يجعلها مقصدا جاهزا كبضاعة للبيع في سوق النخاسة البيضاء، أو وسيلة تصريف منتوجاته من علبة السجائر، إلى المعلبات الصناعية العابرة للقارات.
فيا ليت شعري كيف تنكرت هذه العقول المريضة، والقلوب المعلولة لجذورها الأصيلة، واستعاضت عنها بحياة مجتمعات أظهر الواقع التاريخي أن بناءها كان على جرف هار، وأن سيرورتها الإنسانية مهددة بين الفينة والأخرى بموت الفجاءة، ولعل ما يزكي طرحنا هذا، هو الإحصاءات الوافدة، والصيحات التحذيرية المتعالية والمنبعثة من أودية المدنية الغربية السحيقة، والتي تشرح بالمرموز والواضح، قضايا المعاناة، وحكاوي التصدعات والشروخ، التي نالت من البناء الحديث، الذي شيّده الرجل الأبيض، مدّعيا له استشرافا أبدي التمكين! واليوم تكذبه تجربة الواقع المعاش، وتحول بينه وبين دعواه شهادة شاهد الأهل.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن رمز الديمقراطية، وقدوة بني الجلدة، بلاد عمهم سام، وكما تظهر الإحصائيات الرسمية، والأرقام التي تتكفل بفضحها منظمات المجتمع المدني، أن نسبة الحوامل من الزنا في المدارس والجامعات، بلغت في بعض المدن الأمريكية نسبة مهولة تجاوزت 48%، كما دلت إحصائية شملت عاما واحدا، أن 120 ألف طفل أنجبتهم فتيات جامعيات، لم يتعد عمرهن العشرين سنة بصورة غير شرعية، بل ونشرت مجلة “الهيدال تربيون”، مقالا قالت فيه: “أن عائلة من كل عشرة عائلات في أمريكا، انتشر فيها زنا المحارم بين الإخوة والأخوات، وبين الآباء والأبناء، وقيل أنها من أعظم العائلات المحترمة”.
والأمريكيون اليوم عموما يعيشون في رعب الجريمة كل يوم، فقد جاء في كتاب “الغزو الفكري” لكاتبه علي جريشة، “أنه يقع في المجتمع الأمريكي 4,5 مليون جريمة خطيرة كل عام، موزعة زمنيا بنسبة جريمة قتل كل 29 دقيقة، وجريمة اغتصاب زنا بالإكراه كل 17 دقيقة، وجريمة اغتصاب مال كل دقيقتين، وجريمة سرقة كل 17 ثانية” انتهى كلامه.
والأكثر من هذا، أنه حتى في الأوساط الأسرية التي بنت أسسها على العقد الكنسي، هي تعيش علائق زوجية مهجنة، قائمة على استقرار مدخون، يسوده مبدأ الدياثة القائمة على فلسفة “أسكت عني أسكت عنك”.
نعم إنه لتصوير بليغ، لِجنَّة القوم الموعودة، التي آثرها بنو الجلدة كبديل عن الحياة الطيبة، التي وعد بها إسلامُنا حالا ومآلا، حياة لا ينوء بحمل أثقالها طرف دون آخر، بل هي حياة يسودها العدل والفضل، ويتقاسم فيها الرجل عيشه إلى جانب سكنه بنت حواء في تآلف فاضل، مبناه على التنافس المحمود، وقوام الحياة السعيدة فيه، مدارها على قوله تعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ”، حياة طيبة يحرص الإسلام كل الحرص على أن تعيش المنتسبات إلى قلعته الحصينة، أطوارها من المهد إلى اللحد، ولا يختصرها في يوم قارس من شهر مارس، يوم تتناسل فيه المنابر الورقية، والمسموعة والمرئية، منابر همّها إشاعة الخصومة بين رجال الأمة ونسائها، باسم مطلب المساواة المقدس، وباسم استئصال شأفة الظلم والاستبداد، الذي بات المسؤول عنه في زعم القوم هو إسلامنا العظيم، حصرا وقسرا.
واسمع لأحدهم وهو يتحدث عن ما أسماه الثواليث المحرمة، ويقول: أنها كلما تناسلت فينا، وكلما ازدادت واستطالت وتمكنت، فإننا في هذا العالم العربي، لن نتمكن من تحقيق الحلم الديمقراطي والمعرفي والثقافي العصري، بل سنظل نتراجع إلى الوراء بغض النظر عن شعارات التقدم والتطور…
ونحن كالعادة نسأل هذا الشاكي المسكون بهموم المعاصرة، عن ماهية هذا الحلم الديمقراطي، وهل كان يعني به ما أسلفنا ذكره عند الحديث عن طاغوته الأعظم؟ من جرائم وسرقة واغتصاب أعراض وأموال، وشيوع معالم التهتك الأسري، وذيوع زنا المحارم بين أفراد العائلات الكبيرة، وانتشار السفاح بين صفوف طلبة الجامعة انتشار النار في الهشيم، ويا ليت الأمر كان مجرد اشتعال نار في برسيم، فإن النار تبقي رمادا يُذر سمادا، أما صنيع القوم، فيبقي العار، ويدر أرقاما ضخمة من الأمهات العازبات، وجيلا مستنسخا من اللقطاء، فإذا لم تحصل لك نعمة الإنابة، قلنا لك مع تصرف في المبنى يبقي على المعنى ما دام القول صنعا: “إذا لم تستحي فقل ما شئت”، فإن لك غدا، يوم يكون “الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض”.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *