ذوالفقار بلعويدي العلماء الرسميون.. أي دور وأية مسؤولية؟؟ (بين د. أحمد الريسوني والمجالس العلمية)

دور العلماء بين الواقع والواجب
في الواقع، لا أحد يجحد فضل العلماء -سواء كانوا رسميين أو غير رسميين-، ولا أن ينكر علو منزلتهم؛ فهم أصحاب الكعب العالي في الأمة الإسلامية، وحسبهم شرفا قول الله فيهم: {يرفَعُ اللهُ الذينَ آمَنوا مِنكُمْ وَالذينَ أوتوا العِلمَ دَرَجات{(1). لكن كل فضل ذُكر لهم قُرن بالعاملين بما استحفظوا عليه من عهد البلاغ والبيان وعدم الكتمان.
أما من تخلى منهم عن أداء واجبه، وغفل عن حكمة وجوده، ولم يف بميثاق الله وعهده الذي عاقده عليه، ناله من الله ما ينال كل ناقض للميثاق، مصداقا لقوله تعالى: {وإذ أخَذ اللهُ ميثاقَ الذينَ أوتوا الكِتابَ لتُبيِّنُنَّه للناسِ ولا تكتُمونَه فنَبَذوهُ وَراءَ ظُهورِهِم واشتَرَوْا بِه ثمَناً قَليلاً فبِئسَ ما يَشتَرون{(2).
هذا ما صرح به الدكتور أحمد الريسوني تصريحا رام به تقرير واقع ملموس لا سبيل إلى المكابرة في إنكاره، إذ قال: «إن علماء المغرب ما يزالون محتجزين مائة بالمائة تقريبا، وإلى حد الآن ليس لهم الأفق القريب لأي دور لهم، لأن السلطة نجحت في إبطال دورهم»(3).
وكان بديهيا ألا يروق مثل هذا الكلام بعض العلماء الرسميين ويثير غضبهم؛ فوجهوا انتقادات وتعقيبات اتفقت على إرجاع سبب الخلاف إلى سوء فهم لطبيعة وظيفة العلماء ودورهم الحقيقي في إطار حدود مسؤوليتهم!!!
وتعقب السيد محمد يسف رئيس المجلس العلمي الأعلى تصريح الدكتور الريسوني بقوله: «..ولهذا عليه أن يتأكد من دورهم، وكيف يمارسون مسؤولياتهم العلمية….»، بل ذهب في التشكيك حد قوله: «..وربما هناك خطأ في الفهم الحقيقي لدور العلماء..». (4)
وحرص لحسن السكنفل رئيس المجلس العلمي المحلي لعمالة الصخيرات على حصر دور العالم في مجرد الوعظ والكتابة، بقوله: «الدكتور أحمد الريسوني هو أيضا من العلماء، فما هو الدور الذي يقوم به إلا الوعظ والإرشاد والكتابة… لم يثبت أن فرضت (الوزارة) على العلماء رأيا أو تدخلت في مجال تخصصاتهم.. وأؤكد أن العالم حين يحس برسالته فإنه يؤدي واجبه في إطار حدوده..»(5).
صحيح.. هذا هو موطن الخلاف، لكن من المخطئ ومن المصيب؟
فيا لله العجب! وكيف إذا ما ظن القراء من هذه التعقيبات أن دور العلماء ينحصر في الوعظ والإرشاد وشؤون العبادة داخل المساجد. ولا شأن لهم بعد ذلك بحكم ولا سياسة ولا تشريع ولا شؤون الدولة وعلاقاتها؛ ولا بحاكمها وتصرفاته؛ وليس لهم الحق في أن تكون لهم سلطة رقابية على التعليم وإنشاء برامجه؛ ولا أن تكون لهم سلطة رقابية على الفن من حيث ما يجوز بثه للمسلم وما لا يجوز؛ ولا أن تكون لهم سلطة رقابية على إعلام، ولا على ثقافة، ولا سياحة، ولا اقتصاد ولا أن يؤخذ رأيهم في مثل قضايا الحريات، ولا مسائل حقوق الإنسان؟؟
فإن لم تكن هذه هي العلمانية في تكريس أخص أسس مشروعها الذي هو فصل الدين عن السياسة والحكم؛ فما هي العلمانية إذن؟!
أفيدونا يرحمكم الله.
فهذا إعلامنا قنواته الفضائية الرسمية خارج تغطية مؤسسة العلماء، تبث برامج تحمل عكس مبادئ مجتمعنا وثقافته وقيمه: أفلام تدكّ الفضيلة؛ وأغاني تثير الغريزة وتشجع على الرذيلة؛ بما كادت تنحصر فيه من مواضيع الحب والتغزل والهيام؛ وصحف تحمل صور نساء شبه عاريات وأجساد مكشوفة..
تعليمنا يعاني من قلة المواد الدينية، بل من إقصائها الكلي من الكليات والجامعات، خاصة في الشُّعَبِ العلمية والأدبية، وكأنه يتعارض أن يدرس الطالب الطب أو الهندسة أو الاقتصاد أو الفيزياء أو الأدب بكل فروعه، … ثم يدرس مع تخصصه ما يجب اعتقاده وما يلزم أن يكون معلوما عنده من دينه بالضرورة!!
اقتصادنا يعتمد على الربا ويبني قسطا هاما من دخله على عائدات تجارة الخمور، وأنشطة مؤسسات القمار، ورسوم التبغ والسجائر.
وإن مجتمعا هذا حاله هو أحوج ما يكون من علمائه إلى أكثر من مجرد شجب أو إصدار بيان.
لكن ما الحيلة وقد رضي علماؤه ووافقوا على العمل في إطار هذه الحدود!!

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
لقد اقتضت سنة الله أنه إذا عمّ الفساد فلا بد من أن ينهض من الأمة من يقوم بدفعه. والعلماء الواقفون في وجه الظلم والمستنكرون للفساد؛ هم دائما وفق السنة الربانية صمام الأمان للأمم والشعوب. مصداقا لقوله تعالى: }فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْض{(6)، وقوله سبحانه: }لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْت}(7).
وهكذا كانت سيرة أنبيائنا مع أممهم، وسيرة من ورث عنهم من علمائنا مع أقوامهم، حكاما كانوا أو محكومين؛ إنها وظيفة من لا يخشون أحدا من الناس، ولا يسكتون عن حق وجب نشره، ولا يبالون بهوى دولة، ولا بهوى عامة، يفتون بما دل عليه الكتاب والسنة، ووفق ما نصت عليه القواعد الفقهية والمقاصد والمصالح الشرعية؛ رضي من رضي وسخط من سخط.
فهذا الإمام مالك في محنته مع أبي جعفر المنصور حين نهاه عن أن يحدّث بالحديث الموقوف على ابن عباس «ليس على المستكره طلاق»، فأبى رحمه الله إلا أن يقول الحق ويجهر به، حيث لم يكن ممن يكتم أحكام الإسلام رضا لهوى حاكمه، أو خوفا من بطشه وجبروته، فضُرب رحمه الله سبعين سوطا أضجعته في الفراش، ولم يمتنع مع ذلك عن رواية الحديث.
وهذا الإمام أحمد ضُرب أيضا بالسياط في محنة القول بخلق القرآن، وأسر في الأغلال، وطرح في السجن، وقطعت رؤوس أقرانه، ولم يثنه كل هذا عن إشهار معتقَده المخالف لمعتقد الدولة التي اختارت عقيدة الاعتزال، حفاظا منه على عقيدة الإسلام وحماية القرآن. ولم يقل هذا مما جرى به العمل أو عمت به البلوى.
ناهيك عن محنة الإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام العز بن عبد السلام، والإمام البخاري، والإمام مسلم، والإمام الثوري، وقبلهم محنة سعيد بن المسيب، ومحنة سعيد بن جبير… وغيرهم كثير.
ولا يجرؤ على أن يقول إن هؤلاء الأخيار أدوا واجبهم خارج إطار حدودهم، إلا من تعلْمَنَ وأخطأ فهم الإسلام.
إنها وظيفة القيام بمهمة تنظيم حياة المجتمع على أصل العبودية لله في إطار إسلام اجتماعي، وهذا يقتضي من العلماء ألا يكونوا بمعزل عن غيرهم في إدارة شؤون المجتمع. فلا يُبرمُ أمرٌ إلا عن طريقهم، ولا ينفذ قولٌ إلا إذا ارتضوه وأقروه.
إنها وظيفة تقوم على أساس إقامة شريعة الله في الأرض، ثم حراستها، وتغليب الحق على الباطل، والمعروف على المنكر، والخير على الشر، مصداقا لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{(8).
ليست وظيفة العلماء وظيفة وعظ وإرشاد وبيان فحسب، كما يظن بعضهم، فهذا مجرد شطر منها وليس هو كل الوظيفة. أما شطرها الآخر فيتمثل في قوله تعالى:(وَيَأْمُرُونَ) (وَيَنْهَوْن)، وهذا يستلزم منهم تنفيذ الخير وتفعيله في المجتمع، ولا يكون ذلك أبدا إلا أن تكون للعلماء سلطة تمكنهم من تحقيق وحماية كل ما هو خير أو معروف، ونفي واجتثاث كل ما هو شر أو منكر، فإنه لا ينفع وعظ بخير لا نفاذ له.
أما إذا كانوا لا يستطيعون محاسبة حاكم، ولا محاسبة مسؤول، ولا محاسبة محكوم، ولا نصرة حق، ولا منع باطل، ولا أن يقولوا للظالم قد ظلمت، ولا للمفسد أفسدت، وهذا هو حالهم اليوم، فما فائدة وجودهم إذن..؟!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المجادلة:11.
(2) آل عمران:187.
(3) مقال: «موجة غضب وسط علماء السلطة بعد أن وصفهم الريسوني بـ: المحتجزين» بقلم مولاي إدريس المودن، انظر جريدة المساء العدد 1829 الخميس 9 غشت 2012.
(4) المرجع نفسه.
(5) المرجع نفسه.
(6) هود:116.
(7) المائدة:63.
(8) آل عمران:104.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *